آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
الرفق فريضة أخلاقية

الرفق فريضة أخلاقية

تاريخ الإضافة: 2007/02/02 | عدد المشاهدات: 3850

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

عندما تُسأل -أخي المسلم- عن الإسلام فلا شك في أنك ستقول إن الإسلام يتكون من عقيدة وعبادة وأخلاق، وفي العقيدة فرائض وواجبات ومحرمات، وفي العبادات فرائض وواجبات ومحرمات أيضاً، وفي الأخلاق فرائض وواجبات ومحرمات. أريد أن أقول: في الأخلاق فرائض، في العبادات فرائض، في العقيدة فرائض، لكن المشكلة لدينا أننا تصورنا تصوراً فيه شيء من نقصان، تصورنا أن العقيدة فيها فرائض وهذا صحيح، وتصورنا بأن العبادة فيها فرائض وهذا صحيح أيضاً، لكن كثيراً لا يتصور أن في الأخلاق فرائض بل حسبوا أن الأخلاق كلها نوافل أو يمكن أن تكون أقل من النوافل، والدليل على ذلك أننا إذ نتحدث عن العقيدة نقول: من أركان الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله... فإذا لم تؤمن بالملائكة فأنت في خطر من حيث الإيمان لأنك جانبت ركناً وواجباً وفرضاً من فروض العقيدة والإيمان، كذلك عندما نتحدث عن العبادات فإنك تقول بملء فيك: الصلاة فريضة والصوم فريضة ومن ترك الصلاة أثم، وقد ترك فريضة ومن ترك الصيام أثم لأنه ترك فريضة وهكذا، لكن هل سمعتم من يقول: في الأخلاق فرائض ؟ وبعبارة أخرى هل حدثتم أنفسكم وحدثتم من معكم فيما يخص الأخلاق عن فريضة في الأخلاق تحرصون عليها كما تحرصون على فريضة العبادة ؟ هل تقولون لأنفسكم إن التعاون فريضة ؟ وهل تعتقدون وتتصورون هذا التصور الموازي لتصوركم عن فرضية الصلاة ؟ التعاون فريضة لأن الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾ والتعاون من قسم الأخلاق، هل تتصورون وأنتم تحدثون أنفسكم وغيركم وأسركم وتلاميذكم عن المحبة والتناصح ؟ هل تتحدثون عن أخلاق هي من حيث الوجوب فرائض ؟ أم أننا في غياب عن هذه الأمور التي هي أكيدة وأكيدة جداً في ديننا ؟ نحن لا نتصور خُلقاً على أنه فرض والدليل وأؤكد على ذلك أننا لا ننظر إلى هذا الخُلق كما ننظر إلى الصلاة والزكاة والصيام والحج، لذلك عندما قام في ذهننا مثل هذا التصور وإذ بنا فيما يخص الأخلاق أصبحنا على حال لا نحسد عليها، أصبحنا في حال لا ينظر إلينا على أننا أمة متحضرة لأن الأخلاق في النهاية هي عنوان الحضارة، صحيح أن العقيدة والعبادة هي من مكونات الحضارة لكن العنوان لأي حضارة هي الأخلاق وقد كنا نردد ونحن صغار:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت                  فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ذهب عنوانهم، الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مدحه ربه بأي شيء ؟ لم يمدحه ربه ولم يذكره بالثناء فيما يخص العبادة أو العقيدة لكنه قال: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ فهل نحن يقال لبعضنا أو يقال لمجموعنا: إن الأمة الإسلامية اليوم لعلى خلق لا أقول عظيم بل جيد، هل يستطيع أحد أن يمدح الأمة اليوم بهذه المقولة المقتبسة من القرآن الكريم ؟ هل يستطيع أحد أن يقول عنا: وإنكم لعلى خلق جميل ؟ ما أعتقد. هناك أفراد أخلاقيون لكن الأمة بمجموعها ويؤسفنا أن نقول ذلك تخلت عن الأخلاق واعتبار أن في الأخلاق فرائض لا يمكن التقصير حيالها، من هذه الفرائض الأخلاقية: الرفق.

أو تسمعون به ؟ لا أريد أن أشرح ما تعنيه كلمة الرفق سأترك المعاني تنساب منها إلى أذهانكم لا سيما وأنكم عرب وتفهمون الكلام العربي، سأترك الشرح لك فما يمكن أن تفهمه من الرفق هو فريضة عليك، الرفق فريضة وقررت كما في الأسبوع الماضي أن أدع الأحاديث الشريفة تتكلم عن هذه الفريضة التي حسبناها نافلة بل ربما كما قلت أقل وجوباً من النافلة، سأدع الأحاديث الشريفة تتكلم عن الرفق فهل سمعتم بهذا من قبل ؟ أنا لا أشك في أن كثيراً منكم سمع هذا وما كلامي من أجل التذكرة المعرفية لا، ولكن آمل أن تكون هذه التذكرة من أجل اعتقاد يمكث في داخلنا على أن هذه الأخلاق أولاً فريضة وبالتالي واجبنا نحو الفريضة أن نقوم بها وأن نتحلى بها وإلا فنحن آثمون.

عن عائشة رضيَ اللهُ عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم – وليسمع المسلمون – (إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله) رواه البخاري ومسلم.

وعن عائشة رضيَ اللهُ عنها أيضاً أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم.

وعن عائشة رضيَ اللهُ عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) وما دام الرفق قد نزع منا فنحن يا إخوة في حالة شين والشين يعني أمراً قبيحاً ولسنا في حالة زين لأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، هل أنت رفيق مع أخيك ؟ هل أنت ذو رفق مع زوجتك ؟ هل أنتِ أيتها الزوجة ذات رفق مع زوجك ؟ هل أنت أيها التلميذ رفيق بأستاذك ؟ هل أنت أيها الأستاذ رفيق بطلابك ؟ هل أنت أيها الحاكم رفيق بشعبك ؟ هل أنت أيها الشعب رفيق بحاكمك ؟ هل أنت أيها الشيخ رفيق بمستمعيك ؟ هل أنت أيها المستمع رفيق بهذا الذي يلقي عليك كلامه ؟ هل هل ... أعتقد أن مساحات كبيرة من مجتمعاتنا لا يغطيها الرفق بل على العكس يغطيها العنف.

روى مسلم أيضاً أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير). وروى الطبراني بسند حسن عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: (إن الله عزَّ وجلَّ وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق) الذي هو نقيض الحماقة، العنف (وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا) أين الرفق علاقةً بيننا ؟ أين الرفق يا أيها الموظفون في مديرياتكم ؟ أين الرفق يا أيها الشيوخ في مساجدكم ؟ أين الرفق يا أيها المسؤولون في أماكنكم ؟ أين الرفق يا أيها القضاة على أقواسكم ؟ هل أنتم يطلق عليكم أو يمكن أن تتصفوا بالرفق ؟ ما أظن ذلك ولو كنا رفيقين بأنفسنا وبمساجدنا وبأراضينا وبمديرياتنا وبمؤسساتنا وبإخواننا، لكنا في غير هذه الحال التي نحن فيها.

روى الترمذي بسند حسن أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير).

وعن عائشة رضيَ اللهُ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال لها: (يا عائش، وفي رواية يا عائشة، ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) رواه أحمد بسند حسن. أتريد أن تعرف فيما إذا كان بيتك بيت خير ؟ انظر الرفق فيه، أتريد أن تتعرف على تلك المدرسة فيما إذا كان الخير يجللها ؟ انظر رفق أهلها ببعضهم، وهذه قاعدة وهذا أمر يمكن أن نقيس عليه، إذا أردت أن تعرف الخير يجلل المكان الذي أنت فيه، انظر الرفق وحجمه فيه.

حدثني أخ قال لي: إذا دخلت مجلساً فيه بعض الشيوخ شعرت بالضيق لأني لا أشعر أنهم يتصرفون على أساس من رفق بل إن تصرفهم إلى العنف أقرب إن لم أقل إن تصرفهم كان عنيفا، فلماذا هذا يا أخي ؟

قلت له: لأنهم لا يعتقدون بأن الرفق فريضة كما يعتقدون الصلاة فريضة، ولأنهم أيضا لا يتبعون رسول الله فيما يخص الأخلاق بل يتبعونه فيما يخص العبادات في ظاهرها وشكلها فحسب.

غلب علينا الفقه وحل محل الأخلاق، فنحن نُسأل عن أحكام البيع والشراء صحة وفساداً من حيث طبيعة هذا الأمر، لكننا لا نُسأل عن أخلاق البيع والشراء، نحن نسأل عن صحة الطلاق وفساده لكننا لا نسأل عن أخلاق الأسرة الحميدة والذميمة، الحميدة من أجل فعلها والذميمة من أجل اجتنابها، أصبحنا أمة مادية ننظر إلى الشريعة على أنها قانون مُعرَّى عن الأخلاق كما ينظر أهل القانون إلى القانون، الفرق بين القانون والشريعة أن القانون لا أخلاق فيه لكن الشريعة تمتلك أخلاقاً، فأين الأخلاق يا هؤلاء ؟ وأين الرفق الذي يجب أن يكون حافاً بين المعاملات والعبادات والعقيدة والتصورات، أين الرفق ؟

يقول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أيضاً كما يروي الطبراني بسند حسن: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم).

ولطالما سمعت المسلمين يحدِّث بعضهم بعضاً، يحدِّثون غيرهم من المسلمين عن تلك القصة العظيمة التي رواها البخاري عندما جاء أعرابي إلى مسجد رسول الله وكان هذا الأعرابي جاهلاً وإذ به ضاق عليه الأمر فيما يخص قضاء حاجته فبال في المسجد أرأيتم إلى هذه الفعلة الشنيعة ؟ وهمَّ الأصحاب ليقعوا فيه، لينالوا منه، وإذ بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول لهم: (دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء) ثم قال: (فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) هل أنت على استعداد أن تفعل مثل ما فعل النبي مع مثل هذا الأعرابي ؟ ما أظن كذلك، لأنني أعيش معكم وتعيشون معي ونحن نعرف بعضنا، ومن حي صغير وكلنا كما يقال على معرفة بأحوالنا وأحوال الآخرين وكلنا يشعر بقلبه وبداخله بأنه يرتكب بمثل هذه القضايا أخطاء وزلات.

إلى متى سنظل بعيدين عن مساحة الأخلاق ؟ وإلى متى سنظل ننظر إلى الأخلاق على أنها أمور لا تتعلق بديننا إلا لماماً ؟ وإلى متى ستظل الأخلاق حبيسة الكتب والأحاديث والقرآن الكريم ؟ إلى متى ستظل الأخلاق تاريخاً نتحدث عنه من أجل أن نقول للإنسانية كلها إن الإسلام صالح ولكن من خلال التاريخ لا من خلال الحاضر ؟ آمل أن نفكر في أمرين اثنين حتى تكون الخطبة ذات نفع وذات ثمرة، الأمر الأول: في الأخلاق فرائض، الأمر الثاني: نحن مدعوون إلى الأخلاق لأن الأخلاق عنوان.

وفي النهاية لا يمكن أن نكون دعاة خير ودعاة إسلام إلا من خلال وسيلة الأخلاق، إنما الأخلاق هي الأمة فإذا ذهبت أخلاق الأمة ذهبت الأمة برمتها.

اللهم حسّن خلْقنا وخُلُقنا يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، نعم من يسأل ربنا، ونعم النصير إلهنا، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 2/2/2007

التعليقات

شاركنا بتعليق