أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
منذ يومين سألني بعضٌ من طلبة جامعتنا وهم يقومون بحملة أسموها " فهل أنتم
منتهون " وغاية حملتهم التحذير من مضارِّ التدخين ودعوة الطلاب والأساتيذ
والناس مَن كان منهم مدخناً من أجل أن يقلع عن التدخين ، ومَن كان منهم غير
مدخن من أجل أن يجتنبه وأن لا يباشر وأن لا يعتاد وأن لا يُدمن على هذه العادة
السيئة ، والمهم ، لا أريد أن أحدثكم عن التدخين فذلك - يا أخوتي - أقلُّ ما
يمكن أن يقال فيه بأنه مكروه تحريماً ، لكن السؤال قالوا لي : نريد أن ندعوا
الناس إلى هذه الفضيلة ، أي إلى عدم التدخين ، أي إلى الإقلاع عن التدخين ،
فكيف تنصحنا ؟ ما الأسلوب الذي يجب أن نتبعه في دعوتنا الناس ؟ قلت لهم : الله
عز وجل امرنا أن ندعوا إلى سبيلة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وها أنا أنقل ما
قال ربي عز وجل إليكم لأقول :
﴿
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
﴾
النحل : 125
فالله خاطب سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وخاطب مَن بعده بقوله :
﴿
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
﴾
النحل : 125
وإن أردتم تفصيلاً للحكمة والموعظة الحسنة فإليكم ، وها أنذا أتوجه إليكم
مذكراً إياكم بضرورة الدعوة إلى الله عز وجل في أصلها فنحن مقصرون في الدعوة
إلى الله جلت قدرته ، وأغتنم فرصة الحديث عن الحكمة في تبليغ الدعوة من أجل أن
أذكر بأصلِ وجوب الدعوة إلى الله عز وجل ، فيا أيها الأب : كن داعياً إلى الله
في بيتك ، ويا أيتها الأم كوني داعيةً إلى الله في بيتك ، أيها الأستاذ كذلك كن
داعياً إلى الله في مدرستك ، في جامعتك ، أيها الطبيب ، أيها القاضي ، أيها
الإنسان المسلم أينما كنت ، أعود فأقول بعد أن ذكرتك بأصل وجوب الدعوة إلى الله
عز وجل أعود فأُذكِّر بكيفية الدعوة .
نحن في شرحٍ على قدر المستطاع لقول الله عز وجل :
﴿
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
﴾
النحل : 125
وعلى شرحٍ لقول الله عز وجل :
﴿
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين
﴾
فصلت : 33
.
أولاً : أيها الداعي إلى الله : عليك أن تكون صاحبَ كلمةٍ حسنةِ الأسلوب مهذبة
، والله عز وجل قال :
﴿
وهُدُوا إلى الطيب من القول
﴾
الحج : 24
ويقول الله عز وجل أيضاً :
﴿
وقولوا للناس حسناً
﴾
البقرة : 83
وسيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما في سنن الترمذي وقال عنه
الترمذي حديث حسن صحيح : " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا
البذيء " عليك أن تكون صاحب كلمة مهذبة حسنة الأسلوب ويقول صلى الله عليه وآله
وسلم أيضاً كما جاء في الترمذي بسند صحيح : " إن من أقربكم مني مجلساً يوم
القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وان أبغضكم وأبعدكم عني يوم القيامة الثرثارون
المتشدقون المتفيهقون " قالوا يا رسول الله : عَلِمنا الثرثارون والمتشدقون فمن
المتفيهقون ؟ قال : " المتكبرون " والمتشدقون أولئك الذين يتكلمون بتكلف ،
والثرثارون أولئك الذين يتكلمون كثيراً بتكلف ، وأما المتشدقون فأولئك الذين
يتعالَون إذ يتكلمون ، يتعالَون بكلامهم ، وأما المتفيهقون فالمتكبرون ، وإن
أبغضكم إلي وأبعدكم عني مجلساً يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون .
الأمر الثاني من أجل أن تكون دعوتك بالحكمة : عليك أن لا تُملِّل من يسمعونك ،
عليك أن تتخولهم بالموعظة ، عليك أن تجعل فواصل في توجيهاتك ، في دروسك ، أن لا
تكثر على الناس من الدروس والمواعظ وخطب ، فلقد جاء في البخاري أن ابن مسعود
رضي الله عنه كان يُذكر الناس كل خميس فقال له رجل من أصحابه : يا أبا عبد
الرحمن وَدِدتُ لو أنك تُذكرنا كلَّ يوم . فقال سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه :
" وأنا أيضاً أودُّ لكنني أخاف أن أملكم بأن أجعلكم تملون وأني أتخولكم
بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة
السآمة " أي مخافة أن نملّ وأن نسأم ، ومن هنا كنت أنصح نفسي وإخوتي الذين
يقومون بالتدريس إن في المساجد في رمضان أو غير رمضان أقول لهم : فلتكن الموعظة
متخوَّلة ، ولنقلل من إلقاء الكلام على الناس ، ولنستعض بَدَلَ الكلام بالقرآن
الكريم ، أي علينا أن لا نجعل الناسَ يملون ، وكنت دائماً أنصح نفسي وإخوتي في
أن لا نكون مكثرين من الكلام على إخواننا فموعظةٌ في الأسبوع تكفي ، وحالُ بقية
الأسبوع يجب أن يَدعم موعظة الأسبوع ، وهكذا .. فالناس لا ينقصهم كلامٌ بشكل
عام وإن كان العلم ينقصنا جميعاً في كل آن ، لكن أقول لا ينقص الناسَ كلام لكن
ينقصنا عمل يؤسّس على كلام ، يؤسّس على علم ، ينقصنا العلم الذي يتحول على سلوك
، لذا قلت لإخوتي الطلاب : ينبغي أن تكون ذا كلمة حسنة الأسلوب مهذبة . يجب أن
لا نكثر من الكلام على الناس ، أن لا نكثر من المواعظ والدروس ، وأن نتخول
الناس بالموعظة .
الأمر الثالث : ينبغي أن تكون كلمتنا رقيقة ، ينبغي أن نكون دعاةً إلى الله
برفق . قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إن الرفق لا يكون في
شيءٍ إلا زانه ، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانه " كما جاء في صحيح الإمام مسلم ،
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح الإمام مسلم أيضاً : " ومن يُحرَم
الرفق يُحرَم الخير كله " عليك أن تكون رفيقاً رقيقاً ، أن تكون كلمتك رقيقة
رفيقة ، وإلا فإن كنت قاسياً أو صلباً لن يُتقبل منك من قِبل الناس ، ولن يتقبل
الله عز وجل منك ، لأن الله قال - كما قلنا في لطيفةٍ قرآنية شرحناها هنا - :
﴿
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً عليظ القلب لانفضوا من حولك
﴾
آل عمران : 159
.
الأمر الرابع : ينبغي أن تكون كلمتك بليغة ، وأنا أعني بالبليغة هنا أن تكون
صادقة ، وأن تكون مُخلِصة ، وأن تكون صحيحة . والبليغة يجب أن تتوفر فيها ثلاثة
أمور : أن تكون صادقة ، أن يستشعر الذي تكلمه أي المخاطَب بأنك صادق معه تريد
له الخير ، تريد أن يعيش في أمان ، تريد له الفضيلة ، تريد له الأمان
والاطمئنان ، أن تكون صادقاً . والشرط الثاني أن تكون خالصةً لوجه الله ، لا
تريد غَرَضاً دنيوياً ، ولا تريد من وَراء ذلك تقديراً ولا إكباراً من الآخرين
، لا تريد أن تأخذ قيمة ما تتكلم به تقديراً وإكباراً من الناس وزعامة عليهم .
مشكلة موجهينا أنهم بتوجيههم يريدون قبضَ الثمن ، والثمن عندهم زعامة ، والثمن
عندهم رِيَاسة ، والثمن عندهم تَكبّر ، والثمن عندهم قِيادة من غير أهلية ،
والثمن عندهم أن يكون الواحد منهم متبوعاً على أساسٍ من اتباعٍ لشخصه لا لدينه
، لا لعلمه ، لا لعَمَله ، لا لِصِلَته مع الله عز وجل .
الأمر الخامس : أن تكون أيها الداعي إلى الله عز وجل في كل مكان ذا كلمةٍ ، أن
تكون صاحبَ كلمة تتناسب والمستمعين ، تتناسب والمخاطَبين ، وحينما نقول مثل هذا
الكلام ربما ظن بعض الناس أننا يجب أن ننزل في حديثنا ، يعني لا أن ننزل في
حديثنا ولكن يعني أن ننزل في حديثنا وأن نرتقي في حديثنا أيضاً ، ولعلي قلت لكم
في أكثر من مناسبة : إن بعضَ الناس يتكلم بمستوىً أعلى من مستوانا هم يريدون
لهذا المتكلم أن ينزل ويريدون أن يبقوا حيث هم من دون أن يُمَرِّنوا أو أن
يدربوا عقولهم على الرقي والترقي والصعود ، صحيحٌ أن نبينا صلى الله عليه وآله
وسلم قال كما جاء في صحيح الإمام : " مسلم حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن
يُكَذّب الله ورسوله ! " صحيحٌ هذا ، ولكن حدثوا الناس بما يعرفون ، وقال شرّاح
الحديث بما يعرفون بما يجب أن يعرفوا ، لا بما يعرفون إذا كانت معرفتهم ضئيلة ،
وإذا كانت معرفتهم قليلة وكان الواجب أن يتعرفوا أكثر ، وأن يرتقوا بعقولهم ،
وأن يرتقوا بفكرهم ، وأن يكونوا على مستوى المخاطَب ، فحدثوا الناس بما يَعرفون
وبما يجب أن يعرفوا ، لأننا نسمع كثيراً من إخواننا مَن يقول كما قلت لكم يا
شيخنا : لا تحدثنا بمستوىً أعلى منا . يريد بذلك أن يبقى كسولاً لا أن يُحرِّض
فكره ، ولا أن يُدَرِّب عقله ، ولا أن يُنشط ذهنه ، ولكن يريد من المتكلم أن
يخفض من مستواه ليكون على مستوى الكسل الذي هو عليه ، ولطالما قلت لإخوةٍ لنا
إن في المساجد أو في المحافل الأخرى أو في المدارس أو في الجامعات : إن أولئك
الذين يرتادون الأمكنة العامة والمراكز الثقافية والمساجد يقدمون للمتكلم جزءاً
ضئيلاً من عقولهم ويقولون بلسان حالهم للخطيب ، للمحاضر ، للمتكلم ، للمدرس :
قد خصصنا لكَ من عقلنا واحدٌ من المليون ، أو واحد من الألف ، وعليك أن تراعي
هذا الذي خصصناه من عقلنا ، أما سائر عقلنا وسائر كتلة ذهننا وتفكيرنا فقد
عزلناها وجعلناها في حالٍ هامدة عندما دخلنا المسجد أو دخلنا المركز أو دخلنا
الجامعة أو المدرسة . نشطوا عقولكم ، ونشطوا أذهانكم ، ودربوا تفكيركم ،
واسعَوا من أجل أن تتلقوا وأنتم في قمة الانتباه كما كان أولئك الذين يتلقون من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرسول الله إذ كان يتخوَّل أو يتحيَّن
أصحابه بالموعظة لأن أصحابه كانوا يتلقون ما يتلقون للتطبيق والعمل ، وأما أنتم
بإمكانكم أن تتلقوا أكثر من عشرين موعظة في الأسبوع وتطلبون المزيد ، لأننا -
لا أعمم - لأن كثيراً منا يطلب هذه المواعظ الكثيرة في كل يوم ، لأنه إذ يسمعها
سينساها مباشرة ولن يطبق هذا الذي يسمع ، ولن يحاول أن يتفهم أبعادَ ما يسمع ،
لذلك إن أسمعته في الأسبوع خمسين موعظة وخمسين درساً ، أو أسمعته موعظتين
فالقضية بالنسبة إليه سواء ، لأن ما تكلمه وما تتكلمه أنت أيها المتكلم يمر من
فوق المستمع كما تمر سحابات صيف لا يُستَمطر منها ماء ، ولا يستنزل منها بلللاً
أو ندى ، كانت كسحابة صيف لا أكثر ولا أقل ، تمر سراعاً كرياح الشتاء .
وأخيراً : عندما تدعو إلى الله عليك أن تتبين اللهَ في كلمتك التي تريد أن
توجهها لتتبين جانب الخير ، أن تكون كلمتك مدروسة ، أن تدرس الخير الذي تريده
من كلمتك ، ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في البخاري ومسلم : " من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " ويقول صلى الله عليه وآله
وسلم : " إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يتبين ما فيها - يتكلمها من غير دراسة ،
يتكلمها من غير دراية - يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب " ادرس
كلمتك ، أقول كما قلت أكثر من مرة : وثِّق كلمتك التي تتكلمها ، وانظر الخير
الذي تفرزه ، ولا تتكلم بما لا تعرف ، ولا تتكلم إن كنت لا تدري . والنتيجة من
كلامك الذي تتكلمه وإن لم تكن متأكداً أن كلامك يصبُّ في مَصَبِّ الخير . " من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ما قال فليقل أمراً سواءً أَحَوى الخير أم لم يحوي ، المهم أن لا يقول
شراً ، لم يقل النبي ذلك ، وإنما قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل
خيراً " فإذا لم تقل الخير فاصمت .
قرأت كتاباً يحكي شهاداتٍ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قِبل مستشرقين ،
أو من قبل دارسين للإسلام ولشخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والكتاب
بعنوان : " قالوا في محمد عليه وآله الصلاة والسلام " وإني لأذكر كلمةً للزعيم
غاندي قال : إن من أجمل ما سمعته عن نبي الإسلام هذا الحديث الذي قلناه : " من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " وقال : تصوروا لو أن
المجتمع كله عني بهذا إذاً لن تفوح في المجتمع إلا رائحة الخير ، فالمجتمع نظيف
لأن الكلمة السيئة هي التي تلوث المجتمع ، لأن الكلمة الشريرة هي التي تلوث
المجتمع ، ويا إخوتي نحن نعيش مجتمعاً ملوثاً مادياً ومعنوياً والذي يلوثه
معنوياً هو ذلك الكلام الذي لا نريد من وراء ذكره وحديثه الخير وما نتبين الخير
، ولذلك أخشى ما أخشاه أن نزل في النار لا سمح الله يوم القيامة أبعدَ ما بين
المشرق والمغرب ، فاحفظوا ألسنتكم ، لا تتكلموا إلا بالخير ، وإياكم والكلامَ
الذي لا يقدم خيراً ولا نفعاً ، فإذا ما التزمنا بذلك وطبقوا هذا الأمر خلالَ
أسبوع فستجد نفسك يا أخي نظيفاً في داخلك ، نظيفاً في مجتمعك . فاللهم إنا
نسألك أن تجعلنا من الذين يدعون إليك بالحكمة والموعظة الحسنة حيثما كنا وحيثما
وجدنا ، وأسألك أن توفق الآباء والأمهات والأساتيذ والأطباء والقضاة والحكام
والمعلمين والطلاب والجنود ليمارسوا الدعوة إليك يا رب العالمين بالحكمة
والموعظة الحسنى ، فمن كان لله كان الله معه ، ومن كان لله تقبله الله ، نسأل
الله ذلك . نعمَ من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول واستغفر الله
.
التعليقات