أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
وها نحن هذا الأسبوع نختم حديثنا عن حسن الخلق الذي بدأناه منذ أكثر من ثلاثة
أسابيع . أتكلم عن حسن الخلق لأننا بحاجة إليه ، وقد قلت البارحة لأناس من غير
ملة الإسلام ومن غير هذا البلد قالوا لي : لخص لنا ما تطلبه من المسلمين . فقلت
لهم : إنما أطلب من المسلمين ثلاثة أمور ، الأمر الأول : العبادة لله عز وجل ،
والأمر الثاني حسن الخلق مع الناس ، والأمر الثالث : إتقان العمل الذي يَسَّره
الله عز وجل لك ، والذي يُسّرت له أنت أيها الإنسان المسلم : " اعملوا فكلٌ
مُيَسر لما خلق له " بعد أن قلت هذا الكلام لأولئك الذين اجتمعت معهم ، قررت أن
أحدث إخواني في هذا المسجد المبارك تحت عنوان حسن الخلق فها أنذا أقول :
أيها الأخ المسلم عليك أن تحسن أخلاقك مع الله ، ومع الإنسان ، ومع العمل الذي
تقوم به ، مع العمل الدنيوي الذي تقوم به .
أما حسن خلقك مع الله جلت قدرته فيعني أمرين اثنين ، الأمر الأول : أن تعبد ربك
وفق ما طلب ربك أن تعبد ربك من غير ما بدعة تضيفها أو أمر تستحدثه ، أن تعبد
ربك بحسب الطريق التي رسمها لك ربك لا زيادة ولا نقصان ، فلا نريد لعبادتنا أن
تكون مُغلّفة بزيادة ليس منها ، ولا نريد لعبادتنا لله عز وجل أن تكون مغلفة
أيضاً بنقص عما طلبه الله عز وجل منا . حسن الخلق مع الله يعني أولاً العبادة
وفق ما جاء عن ربنا بموثوقية كاملة ، ووفق ما جاء عن سيدنا المصطفى صلى الله
عليه وآله وسلم بموثوقية كاملة . الصيام سيأتي بعد أيام ، والقيام سيأتي بعد
أيام ، وكلنا نعيش في حالة عبادية من يومٍ لآخر ، وأريد أن أركز على قضية
الالتزام بما ورد من غير ما شطط ، ومن غير ما نقصان . حسن الخلق مع الله أن
تعبده وفق ما طلب الله جلت قدرته .
حسن الخلق مع الله أيضاً أن تطيعه : ولعل الفرق بين العبادة والطاعة أن العبادة
نوجهها للعبادات الصرفة ، للصلاة والزكاة والصيام ، والطاعة نوجهها للامتثال
الله عز وجل ، فقد قال في أكثر من آية :
﴿
ومن يطع الله والرسول
﴾
النساء : 69
حسن الخلق مع الله يعني طاعة . أن تطيعه إذْ أمرك ، وأن تطيعه حيث نهاك ، وأن
تسعى للذي أمرك أن تفعله ، وأن تجتنب الذي أمرك ، هذه هي الطاعة . إن كان الله
قد قال لك افعل هذا في بيعك وشرائك فما عليك إلا أن تلتزم ، وإن قال لك لا تفعل
هذا في بيعك وشرائك وحياتك وعلاقاتك مع زوجك فما عليك إلا أن تجتنب هذا . حسن
الخلق مع الله عبادة وطاعة .
أما حسن الخلق مع الناس فأمران اثنان : ولا نريد أيضاً التفصيل فلعنا ، نترك
التفصيل لمقام آخر ، لكنني أختصر فأقول : حسن الخلق مع الناس الاحترام والعدل
بشكل عام ، ولا أريد أن أفصّل في كيفية التعامل مع العدو أو في كيفية التعامل
مع أولئك الذين يسيؤون أو ... أو ... الخ ، لكنني أركز بشكل مجمل وعام على حسن
الخلق مع الناس : " وخالق الناس بخلق حسن " كما قال سيدي رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم . الخلق الحسَن مع الناس أمران اثنان : الاحترام والعدل .
الاحترام لأن الله عز وجل قال :
﴿
ولقد كرمنا بني آدم
﴾
الإسراء : 70
بشكل عام ، أن تحترم الإنسان بشكل عام
الذي أمامك بغضّ النظر عن هويته الدينية والعرقية والمادية ، هذا الإنسان
المخلوق الذي أمامك مشروع إنسان كامل ، ومن يدري فلعل هذا الإنسان الذي تراه
أمامك عاصياً كافراً انقلب في لحظة ، أو انقلب في برهة ، انقلب في فترة إلى ولي
طَهور ، إلى ولي تتقرب أنت من خلاله إلى ربك جلت قدرته ، ولا أريد أن أعيد
عليكم ، أو ربما كان من المناسب أن أعيد عليكم قصة ذلك التائب الذي حكاه صاحب
كتاب التوابين ، هذا الرجل الذي كان في عهد سيدنا موسى عليه السلام إذ أصاب
قومَ سيدنا موسى القحط والجدب ، فخرجوا لصلاة الاستسقاء ودعوا ربهم جلت قدرته ،
وإذ بربنا يوحي إلى موسى فيقول يا موسى إن فيكم رجلاً يبارزني بالمعاصي أربعين
سنة فمره حتى يخرج فأسقيكم . فقال موسى عليه الصلاة والسلام : إن صوتي لا يصل
إلى الناس ! قال : يا موسى عليك النداء وعليَّ التبليغ . فنادى موسى في الجمع
الكبير : من كان يبارز ربه بالمعاصي أربعين سنة فليخرج منا حتى نُسقى . وإذ
بهذا الرجل - كما يقول صاحب كتاب التوابين الذي وثّق القصة - وإذ بهذا الرجل
بينه وبين نفسه يقول : يا رب سترتني فيما مضى فلا تفضحني . ها أنا أتوب إليك
فلا تفضحني يا رب التائبين . وإذ بالسماء تتلبد غيوماً ، وإذ بالمطر ينهمر ،
وإذا بهم يُسقَون . يقول موسى : يا رب لم يخرج منا أحد ! فموسى يراقب . لم يخرج
منا أحد فكيف سقيتنا ؟! قال : يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم به . سقيتكم بفضل
هذا الذي كان يبارزني بالمعاصي أربعين سنة ، فها هو قد تاب . قال موسى : يا رب
دلني عليه . قال : يا موسى سترته وهو يعصيني ، أأفضحه وقد أطاعني ! يا موسى ما
كنت نماماً .
حسن الخلق مع الناس احترام : ورد في سنن البيهقي أن جنازة مرت أمام النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فقام النبي احتراماً . فقال بعض الأصحاب يا رسول الله إنه
يهودي ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : " أوليست نفساً " وهل يجهل رسول الله
بأنها يهودي ، لكنه علم الأصحاب من خلال الواقع كيف يُحترم الإنسان . احترموا
الإنسان لأنه مشروع ولي ، ومن يدري ؟ لقد قرأت عبارة مرويةً عن الأمام أحمد بن
حنبل يقول : لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك . حسن الخلق مع الناس
احترام ، حسن الخلق مع الناس عدل ، وما معنى العدل مع الناس ؟ معنى العدل مع
الناس : أن تعدل بين الإنسان هذا وبين نفسك ، وأن تعامله بما تحب أن يعاملك به
، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به . إن الإسلام رعى الإنسان ، ولقد قلت على
هذا المنبر منذ أكثر من عشرة سنين على ما أذكر ، رويت قصة عبد الله بن رواحة ،
ولعلي ذكرت تلك القصة أكثر من مرة أيضاً ، عبد الله بن رواحة أرسله رسول الله
خرّاصاً من أجل الخراج على أرض اليهود ، أي يُقدر ما يجب أن يعطيه اليهود من
خَراج على أراضيهم ، فلما رأى اليهود عبد الله بن رواحة خافوا لأنه مسلم ولأنهم
يهود ، ولأنهم أساؤوا إلى الإسلام فخافوا من أن يظلمهم . ونظر عبد الله بن
رواحة في وجوههم وعلم أنهم خافوا منه وخافوا من أن يظلمهم ، فاقترب منهم وقد
اجتمعوا إليه وقال كلمته المعروفة المشهورة : " أما والله إنكم لأبغض خلق الله
إلي ، ولكن هذا لا يحملني على أن لا أعدل بينكم " العدل أساس الملك ، العدل
أساس التعامل مع الإنسان ، مع الجماد ، مع كل مخلوق من مخلوقات الله ، حسن
الخلق مع الناس احترام وعدل .
ثالثاً : حسن الخلق مع عملك أنت أيها الأستاذ ، أنت أيها الموظف ، أنت أيها
التاجر ، أنت أيها البائع ، أنتَ ، أنت ، أنت ... حيثما كنت ، أنت أيها الحاكم
، أنت أيها الوزير ، حسن الخلق مع عملك أمران ، الأمر الأول : تعميق الخبرة .
لتكن خبيراً بعملك ، ولتكن مُلِماً بعملك ، ولتكن قادراً عالماً فهيماً في عملك
، عليك أن تعمق الخبرة نظراً وتجربة ، نريد صناعيين خبراء ، ونريد أطباء خبراء
، ونريد معلمين خبراء وخبيرين ، نريد مَنْ يكون متقناً لهذا الذي يعمل ، أو ليس
رسول الله قال كما جاء في مسند أبي يعلى والطبراني وعبد الرزاق وغيره : " إن
الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " وفي رواية : " أن يُحكمه " وفي راويه
: " أن يحسنه " وفي رواية : " إذا عمل أحدكم من العمل أن يتقنه " أن يحسنه ، أن
يحكمه ، فلنكن متقنين لعملنا . الخبرة أولاً ، ثانيا الإحسان ، والإحسان يعني :
أن تراقب ربك ، ومراقبة ربك تلزمك من أجل تعميق الخبرة وزيادتها ومن أجل أن
يكون عملك خالصاً لوجه الله ، لأنك إن استشعرت مراقبة الله إياك حسن عملك . نعم
حسن عملك وأضحى عملك خالصاً لوجه الله . إن الله يحب من أحدنا إذا عمل عملاً أن
يتقنه ، وتعلمون ما ورد في صحيح الإمام مسلم أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
قال : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل ، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليُحِدَّ أحدكم شفرته ، وليُرِح ذبيحته " وفي النهاية
أتريد أن ترى نفسك على ضوء حسن الخلق ، انظر تمسكك وقيامك وتحققك في هذا الذي
قلنا مع الله عبادة وطاعة ، مع الإنسان احترام وعدل ، مع عملك ، مع دنياك إتقان
و إحسان ، والإتقان يتضمن إحساناً ، والإحسان يتضمن إتقاناً ، لكننا فصَلنا
وفصّلنا من أجل أن نجعل الإتقان للخبرة والإحسان للمراقبة والإخلاص .
هذه هي معالم حسن الخلق مع ربنا ، ومع الناس ، ومع دنياك . وصدق سيدي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال كما جاء في سنن الترمذي : " اتق الله حيثما
كنت " وهي طاعة وعبادة " وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن "
صدق سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . نسأل ربنا جلت قدرته أن يتفضل
علينا بالإجابة والعطاء والرضا والمنة والإحسان إنه أفضل مسؤول وخير مأمول ،
نعم من يسأل ربنا ونعم النصير إلهنا أقول هذا القول واستغفر الله
.
التعليقات