كنت أقرأ صباح اليوم سورة الزمر، وقد توقفت عند الآيات الأخيرة منها، التي تسمعونها من القراء والأئمة كثيراً، وبها سُميت السورة سورة الزمر، وهي قوله تعالى من الآية: ﴿وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين﴾.
وقد أعدت قراءة هذه الآيات أكثر من عشر مرات متأملاً في هاتين الصورتين التي ترسمهما الآيات للذين كفروا أولاً ثم للذين اتقوا ربهم، فبدت لي بعض الفروق الدقيقة اللطيفة بين الصورتين المتشابهتين ظاهراً.
من هذه الفروق:
1- في المشهد الأول يقول الله تعالى عن الكافرين: ﴿حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها﴾، ثم يقول في المشهد الثاني عن المتقين: ﴿حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها﴾، فما موقع الواو في الجملة الثانية، وما الفرق الذي يترتب - بين الصورتين - بناء على ذلك ؟
بداية أقول: إن (إذا) تتضمن معنى الشرط، وهي تعمل في فعلين، الأول فعل الشرط والثاني جواب الشرط وجزاؤه. وهذا يدل - في الآية الأولى - على أن أبواب جهنم لم تفتح حتى وصلها أولئك المستحقون لعذابها، وقد كانت مغلقة من قبل. وذلك من رحمة الله بعباده جميعاً، المتقين منهم والكافرين.
وأما الواو في الآية الثانية فقد ذهب بعض النحويين ومنهم الكوفيون والأخفش إلى أن الواو زائدة لا عمل لها. لكني أرى أن الواو استئنافية أو عاطفة، والمعنى: حتى إذا جاؤوها وكانت أبوابها مفتوحة من قبل. فأبواب الجنة مفتوحة دائماً للراغبين فيها الساعين إليها، وأما أبواب النار فهي مغلقة لا تفتح إلا بعد انتهاء الحساب واستحقاق الكافرين للعقاب، وهذا غاية في الإكرام من الله تعالى لعباده.
2- يقول الله تعالى في الآيات الأولى: ﴿وسيق الذين كفروا﴾ ويقول في الثانية: ﴿وسيق الذين اتقوا ربهم﴾، ولم يقل (الذين آمنوا)، في مقابل (الذين كفروا). فلم وصف المؤمنين بصفة التقوى ؟
التقوى: أن تجعل بينك وبين ربك وقاية، تستجلب بها من الله تعالى رضاه، وتدفع بها عنك غضبه، فالوقاية قد تكون مانعة ودافعة أحياناً، كما تكون جالبة في أحيان أخرى. وهؤلاء المؤمنون وضعوا بينهم وبين غضب ربهم وقاية هي الطاعة، ووضعوا بينهم وبين رضا ربهم وقاية، لكنها الوقاية التي تستجلب، وهي الطاعة أيضاً. فالوقاية في الغضب للدفع والمنع، وفي العطاء للاستجلاب والطلب.
هذه الوقاية التي وضعها المؤمنون في الدنيا استبدلهم الله بها يوم القيامة سلاماً عليهم، ولذلك لم تسألهم الملائكة: ماذا أجبتم رسلكم الذي أرسلوا إليكم، كما سألوا الذين كفروا: ألم يأتكم رسل منكم. فسؤال الكافرين كان إتماماً لإقامة الحجة عليهم باعترافهم بذنبهم.
3- لم قال الله تعالى: ﴿ولكن حقت كلمة العذاب﴾ ولم يقل (حق العذاب) ؟
لكل كلمة دلالتان: نظرية ذهنية، وعملية واقعية، وكل كلمة لا دلالة واقعية وجودية لها لا فائدة منها. وقد حذرت الرسل الناسَ من عذاب جهنم، لكن الكافرين لم يصدقوا بكلمة الرسل، فحقت عليهم واقعاً وعملاً الكلمة التي حذرهم منها الرسل من قبل وهي كلمة العذاب، فـ (أل) في كلمة العذاب هنا هي (أل العهدية الذهنية).
كنا نقول لبعضهم قديماً: أليست كلمة الإله موجودة في كل قواميس العالم وفي لغات جميع الناس ؟
والجواب الأكيد: نعم إنها موجودة. وهذا هو الوجود الذهني.
إذن فمن هو الإله عندكم، إذ لا بد أن تأخذ كل كلمة حقها في الدلالة النظرية والدلالة الواقعية عملاً، ولا يمكن الحديث عن كلمة لها دلالة نظرية ولا دلالة واقعية لها. فوجود كلمة (الإله) النظري يقتضي وجود إله يُعبد ويُتوجه إليه. وكذلك هنا في هذه الآيات، لقد حذر الرسل الناس كلمة العذاب، ولا بد لهذه الكلمة أن تأخذ حقها، فلا يجوز أن نقول: لا عذاب ولا عقاب.
وإذا كان لا بد لكلمة العذاب أن تتحقق في الواقع، بأن يقع العذاب على بعض الناس، فإن ذلك لا يعني إجباراً على أن يكون واحد من الناس بعينه جزءاً ممن تنطبق عليه الدلالة الواقعية للعذاب، بل الأمر منوط بالعمل، ولذلك حذر الرسل الناسَ من الكفر الذي يجعلهم مستحقين للعذاب.
لقد حق العذاب واقعاً على الكافرين الذي أصبحوا تجسيداً لدلالة كلمة العذاب، وكذلك حقت كلمة النعيم على المؤمنين من أجل أن تأخذ كل كلمة أبعادها النظرية والعملية معاً.
التعليقات