1 ـ لماذا الإنسان ؟
2 ـ أهمية الإنسان عند ابن عربي .
3 ـ هذا هو الإنسان .
أ ـ الترسيم .
ب ـ التقسيم .
1 ـ لماذا الإنسان ؟
الحمدُ للّه منزّل
الحِكَم على قلوب الكلم، وصلى الله على مُمدِّ الهمم محمد صلى الله عليه
وسلم .
وبعد:
أ - فالحديث عن الإنسان حديث منّا عنّا، وحديث من حيث المقابلة عمّن
أنسَننا، وحديث من حيث التمايز في الخلق عن العالم عامة، أو إن شئت فقل :
حديث عن " الإنسان الكبير "، الذي هو العالم كما يسمّيه ابن عربي .
ب - والإنسان محل اهتمام أكبر في المبادئ والمذاهب والتشريعات والديانات ،
وعلى رأسها ديننا الحنيف ، الذي فصّل كتابه الكريم في هذا الموضوع أيّما
تفصيل ، فكان في تفصيله واصفاً ومكلّفاً ، وفي توصيفه صادقاً وفياً ، وفي
تكليفه مكرِّماً مشرّفاً ، وكلّ ذلك آتٍ من كون القرآن كتابَ الخالق نفسه ،
وكون من نُزّل عليه هذا الكتاب " إنساناً كاملاً " بالمعنى الدقيق للكلمة ،
وقد كان ابن عربي أول من أطلق هذا التعبير ، وكوّن حوله نظرية متماسكة ،
سنمرّ على مجملها في سطور بحثنا هذا .
ج - والإنسان ، إضافة لما سبق ، مجلىً إلهي، لا يعني حلولاً ولا اتحاداً ،
وإنما هو الصورة المسوّاة التي وعت النفخة النورانية المكوِّنة ذات السرِّ
، فاقتضى هذا خلافةً عن الحق في رعاية سائر الخلق ، قال تعالى :
( فإذا سوّيته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين ) الحجر/29، وقال تعالى :
( إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدّس لك
قال إنِّي أعلم مالا تعلمون ) البقرة/30. وقال ابن عربي : " فما
صحّت الخلافة إلا للإنسان الكامل ، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم
وصوره ، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى "، أخذاً مما ورد في الحديث
الشريف أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إنّ الله خلق آدم على
صورته " ، كما استتبعت الخلافةُ أمانةً حُمّلَها الإنسان دون سواه ،
والأمانة هذه مكمن السرّ في التكليف ، وملحظ النظر في التشريف ، قد أفلح من
رعاها ، وقد خاب وخسر من ودّعها ونعاها .
د - والإنسان بعد ذلك كله هو حركة الكون الواعية ، ضمن مسار الإرادة
الإلهية الراعية ، فإن كان كذلك غدا ربانياً تحقق بكل صفات المربي والمعلم
العدل ، وإلا فهو اللاهث ، الكَلّ الطاغي :
(كلا إنّ الإنسان ليطغى أن
رآه استغنى ) العلق/6-7، كما أخبرنا رب العزة جلّ شأنه.
ولذا فإنّ سعيا ً، كهذا الذي ترونه أمامكم ، إذ ينصبّ على إقامة مثل هذه
الندوات ، إن هو إلا وفاء للإنسان ، لأن تلمّس الأسرار فيه ، والجِدّ في
التعرّف على أغواره ، سيظلّ العلامة الفارقة للأمة الجادة الجيدة . والشيخ
ابن عربي واحد من الذين جدّوا في دراسة الإنسان ، وقدّموا في ذا الميدان
محاورَ جديرة بالبحث والتمحيص ، قد تحمل في ظاهرها تناقضات ، لكنها بعد
التنقيب بعيدة عن التنافر والتناقض .
لقد أخرجتُ منذ سبع سنين مؤلفاً عن الإنسان والإسلام ، وأعدتُ طبعه منذ سنة
تقريباً مع زيادات عليه ، وها أنا اليوم أتقدم بدراسة متواضعة عن الإنسان
في فكر ابن عربي ، وستكون في الآتي القريب من الزمان بعون اللّه ملحقة
بسابقتها في قرطاس واحد ، والأمل العلمي المكتنف هو أن أتابع فأجمع أكثر
وأكثر عن الإنسان ، وهمّي القابع فيّ وأنا أبحث تحققٌ بالمقولة الرائعة (من
عرف نفسه فقد عرف ربّه) ؛ وهذا يعني في النهاية تحققاً بالغاية التي خُلقنا
من أجلها: (وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون )، الذاريات /56، والعبادة هنا على رأي حبر
الأمة ابن عباس هي المعرفة .
وأنا أقول: إن التعبير بالعبادة هو تعبير باللازم عن الملزوم عنه ،
بالمعرفة أساس العبادة ، والعبادة ناتجة عن المعرفة ، ولازمة من لوازمها .
2 ـ أهمية الإنسان عند ابن عربي :
أ - لقد امتد الإنسان وما يتعلق به على جلّ مساحة كتابات ابن عربي ، فما من
مصطلح للشيخ في فتوحاته ، أو في فصوصه ، أو في سائر كتبه الأخرى مخطوطها
ومطبوعها إلا وله صلة وارتباط قريب أو بعيد ، جليّ أو خفيّ بالإنسان ، وحين
تتوجّه فتقرأ " المعجم الصوفي " للباحثة الفاضلة الدكتورة سعاد الحكيم ،
فستجد أنّ أكثر المصطلحات تدور في فلك الإنسان في تجليات مختلفة ، وتحديدات
متنوعة ، فمن الأب بكل المضافات إليه ، إلى الإمام بصفاته كافة ، إلى
النبوة وأشكالها ، إلى الإنسان لفظاً وحروفاً وصنوفاً ، إلى البيت ومجازاته
، إلى التجلي وإشاراته ، إلى الحب ومنطلقاته ، إلى الحق والحقيقة
وتجلياتهما ، إلى الولاية وسماتها ، والقلب وأحواله ، والشهود ومقاماته ،
.. الخ .
وستخرج بعد قراءتها ، إن في كتب الشيخ مباشرة ، أو في مؤلفات نقلت عنه ،
بقناعة لحمتها وسداها حرص الشيخ الأكبر على دراسة الإنسان ، وترسيمه
وتقسيمه وتفنيده وتبيان مهمته وغايته ، وتوضيح حقيقته أصلاً وفرعاً وكمالاً
ونقصاً وديناً وطيناً . فالأمر في النهاية إنسان ، وأريد بالأمر ما يقابل
الخلق الوارد في قوله تعالى :
( ألا له الخلق والأمر ) الأعراف /54، والعبادة مدارها عليه
في قوله عزّ شأنه وهي ما أحبه اللّه من هذا الإنسان ، وأراده :
( وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون ) الذاريات/56 . أما سر اهتمام ابن عربي بالإنسان
فمردّه إلى إسلامه أولاً، لأن الإسلام أوجب على أتباعه الاهتمام بالإنسان
حماية ورعاية ، فاللّه قال في القرآن الكريم :
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن
تقويم ) التين/4، وقال :
(إنا خلقنا الإنسان من نطفة
أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ) الإنسان/2
ب- ولعل من جملة دوافع الاهتمام ثانياً : تقديم رؤية مستعلية بحق على تلك
التي كانت في جعبة الحملات الصليبية على المشرق ، المواكبة لحياة ابن عربي
المشرقية ، ومَنْ وراءها من الغربيين المعتدين آنذاك ، وشتان بين الرؤيتين
: رؤية تحترم الإنسان وتقدّره وتقدّسه، وأخرى ترى في الإنسان المستضعف ذي
العرق المختلف ، واللون المفارق ، والدين المفترق ، فريسة سائغة وموضوعاً
تافهاً ، لا يستحق إلا الاستخدام والاستبعاد والقهر وإيقاع الذل ورسف
القيود .
ج - ولعله ثالثاً ، جدّ في تقديم هذا ليُظهر مقولات العرفان والأذواق
والمشاهدات في هذا الموضوع الهام ، والذي يُعدّ ثالث ثلاثة مواضيع الفلسفة،
وليدحض في الوقت نفسه ، ما تقوله الفلسفة في ذلك ، لأنّ الشيخ الأكبر كان
يرفض الفلسفة ومناهجها ، وله حكايات وحكايات في هذا الموضوع مع ابن رشد،
ذكرها في كتابه "التدبيرات الإلهية" ومن ابتغى السعة في الموضوع فليعد إلى
ما كتبه "بلاثيوس"، عن ذلك في مؤلفه " ابن عربي حياته ومذهبه "، ترجمة :
د.عبد الرحمن بدوي .
د - وابن عربي ما هو في هذا إلا داع إلى لقاء على مستوى الإنسان في رحاب
رسالة السماء العظيمة ، وتحت ظلال الحقيقة المحمدية الجامعة المؤلفة :
(وما أرسلناك إلا رحمةً
للعالمين ) الأنبياء /107.
3 - هذا هو الإنسان عند ابن عربي : أ- الترسيم . ب- التقسيم .
أ ـ الترسيم : انطلق ابن عربي في تعريفه للإنسان من المهمة التي وكلت إليه
، ومن الصفة التي شكّلت وظيفة له ، يوم تعلّقت الإرادة الإلهية بإيجاده .
قال تعالى : ( وإذ قال ربك
للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )
البقرة/30. فالخلافة عن اللّه هي الإنسانية في رأيه ، يقول ابن عربي في
"بلغة الغوّاص" ص /540 : " إنّ الإنسانية الخلافة عن اللّه، والخلافة عن
اللّه تشمل الولاية والنبوة والرسالة والإمامة والأمر والملك ؛ والكمال
الإنساني بكمال هذه المراتب ، وهو مركوز في الإنسان - أي الكمال - بالقوة
منذ آدم إلى آخر مولود .
- والخلافة رتبة كمالية لا يحوزها إلا الوجود الإنساني ، بل لا يأنسها إلا
الإنسان ، ولأنه كذلك أي يأنس الرتبة الكمالية سمي إنساناً .
- ويلمح دارس ابن عربي رفضه التعريف الفلسفي للإنسان القائل بأنه حيوان
ناطق ، وذلك حين يقرأ في فتوحاته قوله : "فالكل : الجماد والنبات والحيوان
عند أهل الكشف حيوان ناطق ؛ بل حي ناطق ؛ غير أنّ هذا المزاج الخاص يسمى
إنساناً لا غير بالصورة ، ووقع التفاضل بين الخلائق في المزاج ، قال تعالى:
( وإن من شيء إلا يسبّح بحمده
) الإسراء /44. و" شيء "، نكرة ، ولا يسبّح إلا حيٌّ عاقل عالم
بمسبَّحه . وقد ورد أنّ المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس" . ويؤكد هذا
النص ما ذهبنا إليه آنفاً من أنّ منهج ابن عربي هو الأذواق والكشف والعرفان
، في مواجهة مناهج الفلسفة القائمة جميعاً على العقل الجاف .
- أما لِمَ خُلِقَ الإنسان ؟ فيقول ابن عربي : ( فأراد " الهو " أن يرى
نفسه رؤية كمالية تكون لها ، ويزول في حقه حكم " الهو "، فنظر في الأعيان
الثابِتة فلم يرَ عيناً يعطي النظرُ إليها هذه الرتبةَ "الأنانة" إلا عينَ
الإنسان الكامل، فقدَّرها عليه ، وقابلها به، فوافقت إلا حقيقة واحدة نقصت
عنه وهي وجودُها لنفسها فأوجدها لنفسها، فتطابقت الصورتان من جميع الوجوه )
.
ب - التقسيم : الإنسان ثلاثة أقسام عند ابن عربي : الكامل ، والحيوان ،
والكبير .
أما الإنسان الكامل : فهو من تجلّت فيه الحقائق الإلهية ، أو حقائق الحق ،
فصحّت له بناءً على ذلك الخلافةُ عن اللّه وإليك أيها القارئ عبارات الشيخ
التي تحدّثت عن هذا النوع من الإنسان ، ليتحصل لك بعد الاطلاع عليها
المفهومُ واضحاً ، وليتجلى الرسمُ جلياً . فقد قال في الفتوحات : " الإنسان
الكامل أقامه الحق برزخاً بين الحق والعالم ، فيظهر بالأسماء الإلهية فيكون
حقاً ، ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً " . والأسماء الإلهية هذه بكليتها
دون استثناء ، لأنه يقول في "حلية الأبدال " ما نصّه : " إن الإنسان الكامل
لا يبقى له في الحضرة الإلهية اسم إلا وهو حامل له" . ونتابع نقل عبارات
الشيخ بهذا الخصوص لنقرأ له العبارة التالية : " الإنسان الكامل هو الجامع
لحقائق العالم وصورة الحق سبحانه " ، والعبارة الأخرى : " فما صحّت الخلافة
إلا للإنسان الكامل فأنشأ صورته تعالى ، ولذلك قال فيه : " كنتُ سمعه وبصره
"، وما قال فيه كنت أذنه وعينه ففرّق بين الصورتين" . ويسعى ابن عربي
للتوضيح أكثر فيقول : " فكل ما سوى الإنسان خلق ، إلا الإنسان فإنه خلق وحق
، فالإنسان الكامل هو على الحقيقة الحق المخلوق به، أي المخلوق بسببه
العالم" . ثم يشرح هذه القولة بالجملة التالية : " الإنسان الكامل روح
العالم ، والعالم المسخر له بكله" .
- أما مهمة الإنسان الكامل فقد عبر عنها ابن عربي بقوله : " والإنسان
الكامل هو الكلمة الجامعة ، وأعطاه اللّه من القوة، بحيث إنه ينظر من
النظرة الواحدة إلى الحضرتين فيتلقى من الحق ويُلقي إلى الخلق " . وأما
الحيوان ، أي الإنسان الحيوان ، فقد وصفه ابن عربي بقوله : " الإنسان
الحيوان هو الصورة الظاهرة التي بها جمع حقائق العالم فقط دون حقائق الحق "
. ويتابع الشيخ الأكبر توضيحه قائلاً : " تقول في زيد إنه إنسان ، وفي عمرو
إنه إنسان ، وإن كان زيد قد ظهرت فيه الحقائق الإلهية وما ظهرت في عمرو،
فعمرو في الحقيقة حيوان في شكل إنسان " .
- وسر التفريق بين الكامل والحيوان من الإنسان . لحظة الشيخ من القرآن
الكريم ، فقد قال : " وإنما فرّقنا بين الإنسان والحيوان والإنسان الكامل
الخلفية : ( يا أيها الإنسان
ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسّواك فعدلك ) الانفطار /6-7،
فهذا كمال النشأة الإنسانية العنصرية الطبيعية ، ثم قال القرآن :
( في أي صورة ما شاء ركبك )
الانفطار /8، إن شاء في صورةِ الكمال فيجعلك خليفة عنه في العالم،
أو في صورة الحيوان، فتكون من جملته، يفضلك عن هذه الجملة المقوّم لذاتك
الذي لا يكون إلا لمن ينطبق عليه اسم الإنسان " .
- ويخالف الإنسان الكامل الإنسان الحيوان في الحكم الرزقي، لأن الإنسانَ
الحيوانَ يرزقُ رزقَ الحيوان، وأما الكامل فله الرزق هذا وزيادة، والزيادة
هذه رزق إلهي، وهو ما يتغذى به من علوم الفكر، بالإضافة إلى الكشف والذوق
والفكر الصحيح . وما رتبةُ الإنسان الحيوان بالنسبة للكامل إلا كرتبة
النسناس من الإنسان الحيوان . وأما الإنسان الكبير فهو عند شيخنا الأكبر
العالمُ بأسرهِ، وقد ذكر ذلك في كتابه "بلغة الغوّاص"، فقال : " إن العالم
بأسره إنسان كبير وروحه الإنسان الكامل " . " الإنسان وإن صغر جرمه عن جرم
العالم فإنه يجمع العالم الكبير، ولهذا يسمي العقلاء العالم إنساناً كبيراً
، ولم يبق في الإمكان معنى إلا وقد ظهر في العالمَ فقد ظهر في مختصره " ،
الذي هو الإنسان . وكأني بهذه العبائر قد استوحيت من بيتين قالهما الإمام
علي كرم اللّه وجهه :
ودواؤك فيك، وما تبصر داؤك منك وما تشعر
وفيك انطوى العالم الأكبر وتحسب أنك جرم صغير
نعم " الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير فكان الإنسان آخر مولد في
العالم أوجده اللّه جامعاً لحقائق العالم كله وجعله خليفة فأعطاه قوة كل
صورة موجودة في العالم " .
هذه لمحة من نفحة عن الإنسان عند هذا العلمَ فهل من مستفيد منها ؟! وهل من
داعٍ رشيد يستبدلها بتلك النظرة التي جاءت على لسان "فوكوياما"،
و"هنتنغتون"، في كتابيهما " الإنسان الأخير "، و" صراع الحضارات ". وهل من
ساعٍ جاد كي يتبنى مفهوم الإنسان الكبير الذي هو العالم، مع روحه الذي هو
الإنسان الكامل ، ليُحلَّه محل عولمة تعني تعويمَ عالم لا يشكّلِ إنساناً
كبيراً روحه إنسان كامل، بل روحُ عالمِ عولمة اليوم إنسان مستعلٍ بغير حق،
مستندُه القوة المادية ليس إلاّ، فهل من مدّكر ؟
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض
أمري إلى اللّه
ألقيت هذه المحاضرة في معهد التراث العربي في حلب
التعليقات