أما بعد ، أيها الإخوة
المسلمون المؤمنون :
منذ يومين سألني سائل ليسجل الجواب في صحيفة عربية ، قال لي : لِمَ الجهاد ؟ لم
الجهاد الذي تخسرون فيه أشياء وأشياء تقدمون نفساً ، ومالاً ، أفلا تستريحون ؟!
ووفرتم هذه الدماء والجهود وهذه الأموال لتجعلوها تعود عليكم بزيادة سرور
وزيادة رفاهية ، ألا تستريحون من هذا العناء ؟ ما الذي يدفعكم من أجل أن
تقاتلوا وتجاهدوا .
قلت له : نحن ندعو إلى الله عز وجل ، ونسأل الله أن يجعلنا ونحن ندعو إليه من
الدعاة إليه فعلاً ، فأنا أخشى - وليس هذا من باب التواضع - أخشى من دعوة إلى
الله ولكن تسجل عند الله دعوى وادعاء ، فاللهم اقبل كلامنا هذا وعملنا وجهدنا
على أنه مساهمة من أجل دعوة إليك يا رب العالمين .
قلت لهذا السائل سَجِّل : نحن ندعو إلى الله عز وجل ونسعى من أجل أن نأمر
بالمعروف وننهى عن المنكر وإخواننا يقاتلون العدو في فلسطين ، وآخرون من
إخواننا يقاتلون العدو في مكان آخر ، كل ذلك من أجل أمور :
الأمر الأول : لأننا مُكَلَّفون - يا أخي - والذي كلفنا هو الله . لماذا تقوم
أنت بوظيفتك ، لماذا تعمل وتخاطر وتركب السيارة وتقطع المسافات ؟ لأنك موظف
وتأخذ على ذلك أجراً ، ونحن أيضاً مكلفون ، وربي عز وجل هو الذي كلفنا وقال لنا
: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيداً ) الله عز وجل قال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله ) نحن مكلفون من قبل ربنا وخالقنا ، نحن مكلفون لأن
ربنا قال لنا ( فقاتلوا أئمة الكفر ) نحن مكلفون لأن ربنا قال لنا ( كتب عليكم
القتال وهو كُرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً
وهو شر لكم ) هذا تكليف ، ولذلك دافعنا أننا مكلفون .
الأمر الثاني : لا تنس يا أخي أننا نقوم بما نقوم به لأننا نريد صلاح الكون
وإعماره ، بناء وإعماراً ، سَجِّل البناء هو ما يتعلق بالمادة الكونية ، وأما
الإعمار فما يتعلق بالمعنى الذي يجب أن يقوم عليه الكون، لأن الكون ليس مادة
فحسب ، وإنما مادة ومعنى ، ونحن نريد صلاح الكون بناء لمادته وإعماراً بمعناه ،
أليس الله قد قال : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون ) للبناء والإعمار ، قال لي : أولا يَسْعَ الآخرون إلى صلاح الكون ،
سَلِّموا لهم إذاً . أجبته : إن هؤلاء الذين تعنيهم يسعون ، ولكن في أحسن
أحوالهم لبناء الكون دون إعماره ، يبنون الكون ، يقومون بإنشاء المادة ،
ويصنعون السلاح ، ويصنعون أدوات الترفيه ، والآلات ويصنعون ويَصنعون ، فهم في
أحسن أحوالهم يقومون بالبناء ، لكن ألا ترى أنهم فيما يخص الإعمار يهدمون ، إذا
كان الإعمار ينصب على المعنى ، ومعنى الإعمار عدل وإنصاف ورد اعتبار وإعطاء
الحقوق لأربابها ، فإن هؤلاء ليسوا بأولي إعمار للكون لأنهم ظالمون ، ألم تسمع
منهم كيف يصفون الظالم على أنه مظلوم ، يُبَدِّلون الحقائق ويصفون المظلوم على
أنه ظالم ، ألم يعينوا أهل الفساد على فسادهم ، أين عدلهم وأخلاقهم وعفتهم ؟
أوَنُسِيَت العفة أم أن مرور السنوات أنسانا إياها فضيلةً وأضحت بالنسبة لنا
قضية ليست بمحل اعتبار ؟ أين صونهم نساءهم وبناتهم وشبابهم ، أين صونهم عقولهم
فيما يخص المجال الإنساني ، أين هذا كله ؟ نحن لسنا بمتعصبين فلم نسلم بعصبية ،
لكننا لم نسلم للآخرين ، لأن الآخرين في أحسن أحوالهم يتوجهون للكون بالبناء
لكنهم فيما يخص المعنى يهدمون ، والأمثلة واضحة ، ماذا فعلت أمريكا في فلسطين ؟
قضت على العدل والإنصاف والحق ، وقفت إلى الباطل تدعمه . ماذا فعلت أمريكا في
فيتنام ( في دولة غير مسلمة ) قضت على الإنسانية ، قضت على البراءة ، ماذا فعلت
ببعض الحكام العرب ؟ قضت على نخوتهم ، قضت على أمانتهم ، جعلت منهم خانعين ،
جعلت منهم أذلاء يخونون القضية وهي تمدحهم إذ يخونون ، أمريكا لا تريد صلاح
الكون بناء ولا إعماراً ، انظر آثارهم في بلادهم وفي بلاد غيرهم .
الأمر الثالث : نحن ندعو ونجاهد ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، لأن الناس في
فطرتهم يريدون هذا ، الناس يريدون العدل ، قد نخطئ ، لكن خطأنا ليس متعمداً ،
الناس تواقون للعدل يظهر ، الناس تواقون للظلم يُقضَى عليه ، نحن نلبي تطلعاً
للناس ، الناس تواقون لحرية مهذبة مؤدبة ، تواقون لعلاقة مستقرة ، تواقون لعون
يجعل الأواصر بين الإنسان والإنسان قائمة على الحسنى ، الناس عطشى لما يحمله
القرآن ، لما يحمله سيد ولد آدم محمد عليه وآله الصلاة والسلام .
الأمر الرابع : نحن بما نقوم به ندفع بلاء ، أمرنا أن نمارس هذا لندفع البلاء ،
أوليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما يروي الترمذي وابن ماجه : " كلا
والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطِرُنَّه
على الحق أطراً أو ليلعنكم الله كما لعنهم " أي كما لعن بني إسرائيل . نحن أمام
خيارين : إما أن نمارس هذا بكل إخلاص وعلم ، وإما أن نُلعن من قبل ربنا "
ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليلعنكم الله كما لعنهم " نحن نلبي حاجة وتطلعاً
لمن يعيش في هذا الكون . أوليس الناس تواقين إلى مقولة ابن الخطاب رضي الله عنه
، أوَليست هذه الكلمة متطلعاً لكل فطرة عند الإنسان : متى استعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! الناس يتطلعون إلى قولة ربعي بن عامر : إن الله
ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا
إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . يا سائلي : سجل هذا الذي
أقوله لك .
الأمر الخامس : لأننا نرد الاعتداء وندفع الاعتداء ، فنحن لم نعتدي ولم نبادر
الاعتداء ، نحن لم نبادر بالتشويه والإفساد ، وحاشا ، وإنما مورس علينا التشويه
والاعتداء والإفساد ، كنا آمنين ، وكان إخوتنا آمنين في فلسطين ، فجاءت القوى
الشريرة لتجعل من فلسطين أرضاً مغتصبة لأناس ليسوا أهلها ، لأناس لا يستحقونها
، أتريد منا أن لا نمارس الأمر بالمعروف والمنكر ينتشر هنا وهناك ، أتريدنا أن
نقف أمام تدفق المنكر على بيوتاتنا وعلى أرضنا هامدين لا نرده حتى يأكلنا
ويتركنا أشلاء لا قيمة لنا ، أتريدنا أن نقف أمام المنكر مستسلمين ، لئن
استسلمنا اليوم أمام من يقتحم أرضنا فهذا يعني أن نستسلم لمن يقتحم عرضنا ،
وهذا يعني أن نقول لصاحب القوة المادية : ما دمت الأقوى مادياً فافعل بنا ما
تشاء ، وكأننا نقول لهذا مستسلمين أكثر مما يجب أن نقوله لربنا . نحن نرد عن
أنفسنا اعتداءً . أليست إسرائيل معتدية ، أليست أمريكا معتدلة ، أليست بعض
الكنائس النصرانية المسيحية في الغرب معتدية ، وقد تَصَهْيَنت ودعمت إسرائيل ،
أليس بعض القادة من بني جلدتنا معتدين ؟ أتريدون أن نغل أيادينا لكي لا نقاوم
المعتدي ، ومتى كان الإنسان إنساناً ويُحسَب على الإنسانية إذا وقف مستسلماً
أمام العدو ! الفطرة تدفعنا من أجل أن نقاوم ونبادر ونقدم للناس بضاعتنا ، ومن
بضاعتنا ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) من بضاعتنا ( ولا تعتدوا إن الله لا
يحب المعتدين ) من بضاعتنا هذا القرآن الكريم ، بل هو كل بضاعتنا ورأس بضاعتنا
وكل البضاعة وعظيم البضاعة ، ولا أعني بالبضاعة - وأرجو أن أكون مفهوماً - أنني
أضعه موضع الخلق ، إنه الحق وكلام الحق ، لكننا هذا الذي نقدمه للناس نريد أن
يهتدي الناس إليه .
أخيراً : قلت لهذا السائل يا أخي : نحن نبغي التعايش مع الناس ، ولكن بشرط واحد
مختصر : أن يعرف كل إنسان حقه وواجبه ، أن يدرك من داخله بأنه غير معتد ، يجب
أن يعلم كل إنسان حدوده وحينما يعرف كل إنسان حدوده ، فنحن نعيش معه لا نكرهه
على دين ولا نكرهه على مذهب ولا نكرهه على شيء ، ولكننا نقول فكر وأدم التفكير
، وأنا يجب أن أفكر وأديم التفكير حتى نصل في النهاية إلى الحق ، وإذا ما ظهر
الحق فعليك أن تتبعه ، وإذا لم تتبعه فما علي إلا أن أدفعك بكل قوة لاتباعه ،
وهذا لصالحك ، وحينما نمارس الدعوة إلى الله فإنما هو اعتقاد في داخلنا أن ذلك
من أجل صالح الناس ، لولا ذلك ما دعونا ، ونحن نقبل انتقاداً ونقبل تقويماً
وتصحيحاً .
سألني بعضهم : أنقاطع البضائع الأمريكية ؟ أجبته نعم قاطع البضاعة الأمريكية ،
لكن لا تقف عند هذه الحدود ، نحن لا نريد أن نكون ساحة استهلاكية تتحول من دولة
إلى دولة على أساس من مواقف لهذه الدولة ، بمعنى : لا أريد أن نقول عن أنفسنا
اليوم سنقاطع البضائع الأمريكية ، حتى إذا تغير موقف أمريكا قلنا عليكم
بالبضائع الأمريكية وقاطعوا البضائع الفرنسية ، وإذا ما تغير موقف فرنسا
انتقلنا أيضاً إلى البضائع الإنكليزية ولم نفكر في أمر جاد هام وهو أنه يجب أن
نقاطع كل البضائع إلا بضائعنا ، ومن هنا يجب علينا أن نكون منتجين ، وهذه هي
المقاطعة الجادة ، أنتج بضاعتك أنت حول نفسك إلى صناعي وإلى زراعي ، وهذه هي
البضاعة الجادة المطلوبة ، فإلى متى سنظل سوقاً يتناوب علينا من يجاملنا ، ومن
يرفض مجاملتنا ، ومن استحكمنا ومن وقف اليوم على مسافة كبيرة من إرضائنا
الظاهري . المقاطعة الحقيقية أن ننتج نحن ونتوجه إلى بناء بلدنا إلى بناء
صناعته وزراعته وأخلاقه ، إلى بناء هيكله السياسي والدستوري والأخلاقي
والتعليمي والقضائي ، هذه هي المقاطعة وليست المقاطعة وإن كانت صورة من صورها
لكنها ضعيفة ، ليست المقاطعة أن لا أشتري السلعة الأمريكية ، أو لا آكل الطعام
الأمريكي ، هذه صورة من صور المقاطعة لكنها ضعيفة وندعو إليها ونقول عليكم أن
تمارسوها ، ولكن فكروا في المقاطعة الجادة ، في الاستقلال الصحيح ، في بناء
أنفسنا وبلادنا وحياتنا حتى إذا ما كنا كذلك أعتقد أن المقاطعة صارت تلقائية
وأمراً طبعياً ، ولا حاجة لأن نقول : لا تشترِ البضاعة الفلانية والفلانية ،
لأن بضاعتنا صارت تفرض نفسها ، لا يمكن أن نقول في أمريكا على سبيل المثال :
قاطعوا البضاعة العربية لأنه لا بضاعة عربية ، ولا يمكن أن يقول الفرنسيون فيما
بينهم : قاطعوا البضاعة العربية لأنه لا بضاعة عربية ، ويمكن الاستغناء عنا
والحال كذلك ، لكن نحن هذا الذي يحصل في فلسطين يجب أن يدفعنا للجهاد بمعنى
القتال ، وللجهاد بمعنى البناء ، وكفانا أننا قضينا فترة غير وجيزة من أعمارنا
في استهلاك غير رشيد ، كفانا أننا أصبحنا كالأيتام على موائد اللئام ، نأكل
الفتات ثم نحارب اللئام بعدم تناول الفتات وهم قبل أن نحاربهم بهذا وجدوا بدلاء
عنا فقدموا لهم هذا الفتات ، والبدلاء من بني جلدتنا . أين الصناعة العربية ،
أين الصناعة الإسلامية ؟ أين السلاح العربي ؟ أين السلاح الإسلامي بشكل عام وإن
كنت لا أنكر أن بعضاً من دولنا الإسلامية بدأت تقدم وتقدم ، وستلقى تعنتاً ،
وأنتم علمتم ما يسمى بالنمور الآسيوية ، ومن جملتها دول إسلامية كماليزيا
وأندونيسيا ، لكن أعداءنا لم يقفوا وحاولوا التحريش وإلهاءهم عن أن يكونوا
مصنعين وأوجدوا في بلادهم الفتن حتى يلفتوهم عن هذا لنبقى جميعاً بحاجة إلى
مصنوعهم ، أظن أننا إذا كنا بحاجة إلى صناعة فلسنا بحاجة إلى مادة نأكلها ، لا
سيما والحمد لله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - أننا عُرِفنا واشتهرنا بالأكل
والشرب - حتى الذي اشتهرنا به استبدلنا به الذي أدنى فهفونا ودنونا إلى المطاعم
الأمريكية ونحن نقول عن أنفسنا بأن الطعام العربي شيء نفتخر به ، والحمد لله
الذي لا يحمد على مكروه سواه .
أيها الإخوة : أليس فينا من رجل رشيد ، يقف بينه وبين نفسه ليقول : المقاطعة
الصحيحة أن أبني نفسي أن أعيش لهذا البلد وتطويره وتقدمه في ميدان المادة
والمعنى ، نحن بحاجة إلى إصلاح في الميدان المادي والمعنوي ، نحن بحاجة إلى
إصلاح من أجل صناعات وزراعات والى إصلاح من أجل قضاء عادل ودستور صحيح ،
وإدارات حكيمة ، ولا نقول هذا لنواجه به حاكماً ومسؤولاً ، فكلنا مسؤولون ،
وليس واحد منا مُعفَى من هذه المسؤولية ، بل كل واحد منا له مساحة مسؤولية .
أخيراً : أقول لهذا السائل : ادع الله معي أن يوفقنا لأن نكون من الباحثين عن
مرادات الله فينا ، لسنا إلا عباداً ونسأل الله أن نكون كذلك ، لسنا إلا مكلفين
، نسأل الله أن يوفقنا للقيام بحق التكليف المشرف الذي جاء من الله عز وجل ،
فيا ربنا كن معنا ولا تكن علينا ، وإذا أردت في قوم فتنة فتوفنا غير مفتونين ،
أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات