آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
أركان حقوق الإنسان

أركان حقوق الإنسان

تاريخ الإضافة: 2003/12/12 | عدد المشاهدات: 4078

أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :

في العاشر من كانون الأول عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ، أي منذ خمسة وخمسين عاماً ، أصدرت هذه الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً أسمته الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ويقع هذا الإعلان في ثلاثين مادة ، يتحدث هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن حق الإنسان في الحياة ، وعن حق الإنسان في التعبير ، وعن حق الإنسان في التعليم ، وعن حق الإنسان في تكوين الأسرة ، وعن حق الإنسان في الوطن ، وعن حق الإنسان في البراءة ، وعن حق الإنسان في أمور كثيرة . ولو أني كنت في محاضرة لاستعرضت معكم هذه المواد الثلاثين ، لكنني وأنا في خطبة جمعة أحب أن أعلِّق بمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لإعلان حقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ، أحب أن أقول :
أولاً : إن كثيرا ًمن كتابنا منذ ذلك الزمن وإلى يومنا هذا تحدثوا وقارنوا وكتبوا عن حقوق الإنسان في الإسلام ، وآمل من مثقفينا وكتابنا ودارسينا أن يعودوا إلى مثل هذه الكتب ليروا بأم أعينهم ماذا قدم الإسلام في ميدان حقوق الإنسان .
ثانياً : بعد دراسة لهذه المواد الثلاثين قلت في نفسي : ألا تُختَصر ، أو بالأحرى أليس هنالك من أساسات لهذه المواد ؟ فكرت في اختصار هذه المواد ، وفكرت في البحث عن أركان هذه المواد وعن أساسات هذه المواد ، وانقدح في ذهني أن كل حديث عن حقوق الإنسان إنما يتفرع عن أمور أربعة ، فإذا ما كانت هذه الأمور الأربعة متوفرة ووفيرة وحاصلة في مجتمع ما ، في مبدأ ما ، فإن هذا المجتمع وهذا المبدأ يكون قد راعى حقوق الإنسان . هذه الأركان الأربعة متصلة ، متسلسلة ببعضها ، تفتتحها الحرية ، وتُختَم بالأخلاق ، وبين الحرية والأخلاق يأتي الحق والعدل ، فنحن أمام أمور أربعة هي : الحرية ، الحق ، العدل ، الأخلاق . وكما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن معايير لمعرفة الإنسان نتحدث هنا عن مجتمعات ، نتحدث هنا عن مبادئ ، نتحدث عن مجتمعات نعايرها على هذه الأمور الأربعة ، ونتحدث عن مبادئ نعايرها ونمحصها على هذه المبادئ الأربعة . هذه الأركان هي الحرية ، هي الحق ، هي العدل ، هي الأخلاق . وكما قلت لكم : هذه الأركان متشابكة لا يمكن للركن الثاني من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الأول ، ولا يمكن للركن الثالث من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الثاني ، ولا يمكن للركن الرابع من هذه الأركان أن يكون من غير الركن الثالث .
الحرية بكل بساطة هي الشعور بالقدرة على الاختيار . أنا أشعر بأني قادر على أن أختار هذا أو أختار ذاك ، والله عز وجل قال : ﴿ ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها ﴾
الشمس : 7 -8 أي أشعرها بأنها قادرة على فعل الفجور وعلى فعل التقوى ﴿ ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها ﴾ الشمس : 7-10 وتحدثنا منذ أكثر من أسبوعين عن الحرية الإيجابية والحرية السلبية .
إذا كانت الحرية شعوراً بالقدرة على الاختيار بين أمرين ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾
الكهف : 29 السؤال : مَنْ يُشعِر مَنْ بالقدرة على الاختيار ؟ القوي هو الذي يشعر الطرف الآخر بأنه قادر ، ويُحِسُّ بقدرته على الاختيار ، فالدولة هي التي يجب أن تشعر الفرد بأنه حر وبأنه قادر على أن يفعل الممكنات ، والله عز وجل هو الذي يشعر الإنسان بأنه قادر على فعل الخير والشر وعلى فعل الخير رقم 1 ، والخير رقم 2 وهكذا دواليك . نتوجه إلى الأقوى في الطرفين لنقول للأب : أنت من يجب أن تشعر ولدك بأنه حر ، وبأنه قادر على الاختيار وبعد ذلك عليك أن توجهه وأن تضع أمامه بشكل مقنع ما يجره إلى الخيبة وما يجره إلى الفلاح ، وعليك أن تتركه ليختار بملء إرادته ، بملء قناعته ، وإلا كل الكلام عن حقوق الإنسان لا قيمة له . الطرف الأقوى هو الذي يشعر الطرف الآخر بأنه حر ، وعلى الدولة أن تشعر رعاياها بأنهم يتمتعون بالحربة وبأنهم قادرون على أن يقولوا هذا وأن يقولوا ذاك ، على أن يقولوا ما يسرها وما لا يسرها ، وأنا أذكر في هذا الميدان قصة للتوضيح ليس إلا ، يوم قال رجل من الرعايا لرئيس الدولة آنذاك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال له : اتق الله يا عمر . وعمر على ما أفهم كان قد أشعر رعاياه بقدرتهم على الاختيار بين الأمور . اتق الله يا عمر . أراد بعض الناس منع هذا الرجل من أن يتابع حديثه ، ولعل مثل هؤلاء المانعين يتكررون في كل زمان ، يكثرون ويقلون ، لكنهم في زماننا كثر ، حاول بعض الناس أن يمنع هذا الرجل ، وإذ بعمر يقول : لا ، لا تمنعوا هذا ، " لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نسمعها " . الحرية عنوان لمجتمع يحرص على أن يكون في ساحة رعاية حقوق الإنسان ، وإلا فهو مقصر ، مقصر ، مقصر شئنا أم أبينا ، نريد حرية في التعبير ، ونريد حرية في الفعل ، ونريد حرية في الممارسة ، وإن أي عهد لم تكن تلك الحرية وهي إشعار الدولة رعاياها بأنهم قادرون على أن يقولوا الأمرين عهد لا ينتمي انتماء كاملاً للإسلام ، لأن الإسلام يحرص على أن تكون مجتمعاته حرة بالمعنى الذي ذكرنا .
بعد ذلك من الحرية نفتح باباً على الحق . للإنسان حقوق ، وعلى الإنسان واجبات ، وعلى المجتمع أن يكون مثقفاً بمعرفة ما له وما عليه ، على الدولة أن تعرف حقوقها وواجباتها ، وعلى الأفراد أن يعرفوا حقوقهم وواجباتهم ، لكن المشكلة أن الدولة أو أن الشعب أو أن الأب أو أن الابن يريد أن يعرف حقوقه ، ولكنه يرفض أن يتعرف على واجباته ، يريد أن ينال حقوقه ، ولكنه في عمى ، في غياب عن ممارسة وعن فعل واجباته ، للدولة حق عليك ، ولك حق على الدولة ، وعليك أن تشعر بأنك على معرفة بهذه الحقوق ، وبالتالي عليك أن تقول للمسؤول عنك : عرفني حقوقي . عليك أن تعرف حقوق الله عليك ، وحقوقك على الله ، والنبي عليه وآله الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه ، ففي الطبراني قال النبي عليه وآله الصلاة والسلام : " أتدرون ما حق الله على العباد ؟ " ثم قال لهم : " أتدرون ما حق العباد على الله ؟ " حقوق يجب أن تعرض بقوة ، اقرؤوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد وضحت هذه المواد الثلاثون ما على الدولة من حقوق وما على الشعوب من حقوق ، وما للدولة من حقوق ، وما للشعوب من حقوق ، اقرؤوا ذلك ، فذلك موجود في هذا الإعلان ، وطبعاً موجود في القرآن الكريم ، في السنة الشريفة ، وقد عددت أكثر من مائة كتاب في حقوق الإنسان في الإسلام ، وكل هذه الكتب تتحدث عن مستندات الحقوق في القرآن الكريم ، في السنة الشريفة ، في السيرة النبوية الرائعة العطرة ، ارجعوا إلى ذلك أيها الحقوقيون ، ارجعوا إلى ذلك أيها القضاة ، ارجعوا إلى ذلك أيها المسؤولون .
الركن الثالث العدل : ها أنت قد شعرت بأنك قادر على أن تختار هذا وأن تختار ذاك ، ثم أنت عرفت حقك وحق الآخر ، بغض النظر عمن كان هذا الآخر يأتي العدل ليقول لك : إني ممارسة لهذا الذي عرفت ، ممارسة وفية للحق الذي عرفت ، ممارسة وفية للواجب الذي عرفت ، العدل ممارسة أمينة تستند إلى معرفة الحق ، ومعرفة الحق تستند إلى شعور بالحرية ، شعور بالاختيار بين أمرين ، يأتي العدل ليكون ممارسة وفية للحق ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾
النساء : 58 ﴿ ولا يجرمنكم شنآن ثوم على أن لا تعدلوا ﴾ المائدة : 8 إذا كنت تبغض إنساناً فما عليك إلا أن تعطيه حقه ، وعلى البغض أن لا يكون ضاغطاً عليك لتمنع هذا الإنسان حقه ، ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ﴾ النساء : 58 على أن تمنعوا الناس حقوقهم ، لا تجعلنكم البغضاء مجرمين ، الشنآن هو البغضاء ، لا يجعلنكم الشنآن تظلمون ، الظلم عاقبته وخيمة ، الظلم لا يمكن أن تكون معه فضيلة ، رأس الرذائل الظلم " الظلم ظلمات يوم القيامة " ، " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا " .
نأتي إلى الركن الرابع الذي هو الإحسان أو الأخلاق . بعد أن شعرت بالحرية والقدرة على الاختيار ، وبعد أن عرفت الواجب ومارست هذا الحق وهذا الواجب بأمانة غير متأثر ببغضاء أو بمحبة عليك بعد ذلك بالإحسان ، الذي هو أسلوب أمثل في أداء الواجب والحق ، عليك أن تكون صاحب أسلوب رائع أمثل ، جميل ، في عطاء الواجب وفي أخذ الحق ، يجب عليك على سبيل المثال أن تدفع الدين لفلان ، فعليك أن تدفعه إليه برفق ، يجب على فلان أن يدفع الدين لك ، عليك أن تطالبه برفق ، " رحم الله امرءا ًسمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحاً إذا اقتضى " . الأخلاق والتي أسميها الإحسان هي الركن الرابع من أركان حقوق الإنسان ، الإحسان ، أن تؤدي واجبك بسماحة ، وأن تطالب بحقك بسماحة ، أن لا تعذب من دون دليل ، وأن لا تحاكم وتسجن زيادة على المستحق ، لا تتهم ، ولا تُتْبِع الاتهام ما لم تمتلك الدليل القاطع ، لا تتبع الاتهام ، مجرد الاتهام ، بتعذيب وتنكيل ، وإلا فأنت في مجتمع أعلن براءته من حقوق الإنسان ، لا تتبع الاتهام بتعذيب ، الإنسان بريء حتى تثبت إدانته ، فما بالنا يعامل بعضنا بعضاً على أن الإنسان متهم حتى تثبت براءته ، عكسنا الآية ، هكذا نتعامل ﴿ إن جاءكم فاق بنبإٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادين ﴾
الحجرات : 94 تبينوا ، وفي قراءة ( فتثبتوا ) تثبت ، تبين ، ولكن التبين والتثبت ليس بالضغط ، ليس بالقوة ، ليس بالمحاصرة ، ليس بلقمة العيش ، التثبت والتبين بالأدلة ، بالظروف التي تلف الموضوع ، باتباع المثبتات والبراهين القضائية العادلة ، ولا يكون التثبت بالقتل ، ولا يكون التبين بالتعذيب ، كم من أناس اعترفوا بأنهم أجرموا نتيجة القتل ، وبعد الدراسة والبحث تبين أن اعترافهم غير صحيح ، ولكنهم يريدون أن ينتهوا من القتل الذي ألم بهم ، كان اعترافهم مخالفاً للحقيقة ، لكنهم اعترفوا بما لم يفعلوا ، فثبتوا أنفسهم على أنهم فعلوا هروباً من القتل الذي رفعه الإنسان الذي أمامهم ، ما هكذا تورد يا سعد الإبل ، لا ورب الكعبة ، وأنا أخاطب كل المجتمعات على الإطلاق ، ولا أقصد مجتمعاً دون مجتمع ، أبتدئ بالمجتمع الأول لأنتهي إلى مجتمعنا الراهن ، وإلا يا إخوتي ما ينفعنا إن تحدثنا عن عظمة لنا في السابق ولكن ممارساتنا اليوم تفتقر إلى انتماء بسيط لهذا الذي نتحدث عنه ، أتريدون أن نبقى نذكر ما كان قد حدث ولكننا نذكر ما حدث ليس وفق ما حدث ، وإنما نذكره كما نريد أن يكون ، وهذا زيادة على في إمعان البعد عن الحقيقة وعن مراعاة حقوق الإنسان ، نريد لبلدنا أن يكون عنوانه مراعاة حقوق الإنسان ، نريد لأسرنا ، لآبائنا ، لأمهاتنا ، لقضاتنا ، لمحامينا ، لثكناتنا ، لسجوننا ، لكل مكان أن يعلو فيه عنوان مراعاة حقوق الإنسان ، وبعد ذلك يمكننا أن نخاطب الآخرين المقصرين في رعاية حقوق الإنسان ، بعد ذلك يمكننا أن نخاطب الغرب الذي قصر في رعاية حقوق الإنسان ، لكننا إن خاطبنا الغرب قبل أن نتبين ما نحن عليه فللغرب ألف حجة علينا في أننا مقصرون ، للغرب ألف حجة ودليل علينا في أننا مقصرون في رعاية الإنسان ، سيقول لنا : انظروا أنفسكم ، انظروا معاملاتكم فيما بينكم ، وكيف تجزأ ، أمة في أكثر من سبع وخمسين دولة نسميها الأمة الإسلامية فأي تسمية لأمة إسلامية تقبع في سبع وخمسين دولة وهي في هذا التدويل ليست متوافقة ولا منسجمة ، وحتى القرارات التي تصدرها لا تلتزم بها ، فأين قرارات مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي ، وقرر فيه المؤتمرون إعانة إخواننا في فلسطين وإنشاء صندوق ، أين هذا الصندوق ، وأين تلك الإعانة وقس على ذلك أموراً كثيرة . حينما نتحدث عن ذلك فمن باب الوفاء لأمتنا ، ومن باب الوفاء لبلدنا ، ونريد لبلدنا هذا أن يكون أنموذجاً يحتذى في تطبيق حقوق الإنسان ، ولا سيما بأنه يقول بأنه مسلم . نطالب أنفسنا وبلدنا بالحرية ، نطالبه بالحق ، نطالبه بالعدل ، نطالبه بالإحسان ، وإلا فلسنا له بناصحين ، وعلينا أن نمارس النصيحة التي هي دين فيما بيننا ، وصدق عليه وآله الصلاة والسلام إذ قال : " الدين النصيحة " قلنا : لمن يا رسول الله ؟ الدين النصيحة وليست الممالأة ، وليست المجاملة ، وإن كانت المجاملة مطلوبة ، ولكن المجاملة في الأسلوب وليس في المضمون ، " الدين النصيحة " قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ، ولرسوله ، ولكتابه ، ولملائكته ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " الدين النصيحة ، فاللهم اجعلنا من الناصحين المنصوحين الذين ينصحون لله ، ويسعون جاهدين من أجل أن يقبلوا النصيحة إرضاء لله أيضاً ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق