آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


بحوث و مقولات

   
سبل النهوض

سبل النهوض

تاريخ الإضافة: 1970/01/01 | عدد المشاهدات: 3937

لا يتم النهوض إلا على أساس
من الإيمان ودعم من الحب وطهر من الضمير والوجدان

الحمد لله من أنعم على آدم بالوجود ، وعلى الإنسان بالعهود ، والصلاة والسلام على رسوله من دعا إلى النهوض والصمود ، وآله الأبرار ، وصحبه الأخيار ، وعمن رشد إلى اليوم الموعود .
كيف تم الاختيار ولماذا ؟
كان عنوان المحاضرة اختياري على الهاتف ، إذ طلب مني مدير المركز الثقافي موضوعاً لمحاضرة في بلدة سلقين الطيبة المؤمنة، فاستحسنه ، ولم يكن في خلدي - وقتها - تصور مفصل عن العنوان والمحاضرة ، سوى أن الفكرة الإجمالية لم تكن لتغادرني في يوم من الأيام ، منذ نعومة الأظفار في رحاب العلم وإلى الآن ، ولطالما اشتدت وقويت - أعني الفكرة - عقب أسفار وتجوال في مختلف الأقطار والبلدان لا سيما في ما اتخذ منها عنوان الإسلام وتنادى أهلوها إلى ساحاته والانضواء تحت لوائه ، وقد تهادى إلى سمعي وأنا على الهاتف كلمات من الأستاذ المدير فهمت منها رغبة في إضافة كلمة أخرى على " سبل النهوض " ، فقلت : فليكن " سبل النهوض الإنساني " ، طامعاً في ذلك نيل زيادة موضوعية ، وتعميق تعميم يتجاوز دوائر البلاد ومحيط الاعتقاد ، ولكني في نفس الوقت الذي وسَّعت كنت أذكر عبارة هارون الرشيد حين قال للغيمة السائرة الماطرة : " سيري وأمطري حيث شئت فإن خَراجك سيأتيني " ، لأقيس عليها عبارة أرددها بيني وبين نفسي : " أيتها الأفكار الخيِّرة النافعة ، كوني حيث تشائين ، مصدرك ديني ومآلك الالتحاق بأصلك في قرآن ربي " .
وما أدري لهذه العبارة سراً محدداً ، وإن كنت أملك بعض التفسيرات والدوافع فأقول : لعلها ثقة مؤمن ، أو ركامات خير ناطقة في مستودع الفطرة ، أو إسقاطات تاريخ زاخم ، أو كبرياء عربي وظفها الإسلام ونظفها ، أو هي مجموع هذه التفسيرات معاً .
وعلى كل فالأمر لا زال في دائرة البحث والحوار ، وعلى من يفرض نتيجة فعلية أن يجتهد في تقديم الرؤى البرهانية والدلائل الفكرية ، وكل قضية يراد بها الإقناع تحتاج إلى برهان واقع ، لا إلى نبضة دافع .
كما أود أن أعرب عما كان يجول في نفسي من إعجاب لبعض المحاولات الجادة في البحث عن طريق الخلاص وسبل النهوض ، سواء أكان عنوانها صريحاً في هذا أم لا ، وأخص بالذكر محاولة شكيب أرسلان في " لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم " ، ومحاولة الكواكبي في " طبائع الاستبداد " وجهد الأفغاني ، وعبده ، ورضا ، والندوي ، والمودودي ، وقطب ، وجدعان ، ومالك بن نبي .
وها أنا ذا أساهم بتواضع ، فلعلنا كلنا نشكل نواة انطلاقة لعلم جاد يعقبه عمل صالح ، فأنفع المعارف ما حققت للإنسان في مساره تقدماً ، وشرها ما لوَته عن الخير المناسب ، وقطعته عن السماء : ( يحسب أن ماله أخلده . كلا لينبذن في الحطمة ) الهمزة / 3-4 .
تقصٍّ لتسميات نهضوية في القرون السالفة القريبة :
لقد كانت القرون الثلاثة الأخيرة ظرف إقرار من كل من سكن الكوكب الأرضي أن الإنسان يعيش حالة انحدار بعد فترة اعتلاء ، وتختلف المسافة الزمنية ضمن القرون المذكورة باختلاف البلاد والقارات ، والمهم أن الإحساس بالحال المتردية كان السمة المرتسمة على الوجه الإنساني بشكل عام . وقد طفح هذا الإحساس ليأخذ شكل البحث عن حل ، وإعادة رفع الخط البياني من القعر إلى مستوى يتجاوز علواً ما كان عليه سالفاً ، وتجلَى هذا في الدعوات الإصلاحية العامة العالمية في مختلف البقاع والأصقاع ، ومن خلال تسمياتها وشعاراتها ، فمن التنوير إلى الإحياء ، فالنهضة فالتحرير والترقي والبناء والإنقاذ واليقظة والإخاء والبعث والرفاه والإصلاح ، وهي بمجموعها في النهاية تصب في معنى واحد ، هو إعادة الخط البياني الراصد لمسيرة الإنسان إلى مستوى أفضل أو مساوٍ لما كان عليه في زمن القمة ، المختلف تحديده بحسب الأمة والدولة والإيديولوجية .
وتأتي أسطري هذه مساهمة متواضعة تسعى للتأكيد ، وإسقاط بعض الصوء على المنطلق ، وتبيان أساسيات في التحديد والتجديد .
لذا فقد عممت واختزلت حتى لا يكون الأمر من أجل بقعة جغرافية محدودة أو جماعة مقصودة ، وإنما - والهم إنساني شامل - من أجل إنسان " النواة " ، إنسان " الجذر " ، إنسان " المحور " ، إنسان " القطب " ، إنسان " المركز " في التركيبة العامة . فإلى الإنسان من أجل إزالة سبل الغموض ، وإليه من أجل استبانة سبل النهوض .
لستُ منحازاً ، ولا أريد أن أكون ممالئاً ، فلقد أقسمت بالحق أن أبغيه ، وبالحق ألا أعدل عنه ، وبالحق أن أخدم الإنسان ، وأجمل ما في الحياة خدمة الإنسان وإن عدا ، والسعي من أجله وإن أعرض : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) الأنعام /35 .
بمهمة وأهمية دعوة الإنسان بعد الاصطفاء الإلهي له ، وإيداع سر الخلافة فيه ، وبمهمة وهداية الإنسان حين يضل بعد أن كان محلاً لنفخ الروح الأحيائية التكريمية التقديسية ( فالأرض تَبَرُّ هذا الإنسان ) ، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه منه وأضيف عليه بما ليس منها : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) الحجر / 29 .
دواعي الانحطاط والسقوط :
قلَّبت صفحات التاريخ البشري ورقة من هنا ، وأخرى من هناك ، فوصلت إلى وضع معادلة إنسانية شاملة عامة ، في تحديد دواعي السقوط ، ورسم ملامح الرقي والنهوض ، إجمالاً . قاطعت بين فترتين مختلفتين ، لأمتين متغايرتين ، تميزتا بالانحدار والهبوط ، فأخذت مشترك صفاتهما المسببة آنذاك ، وكذلك فعلت بفترتين أخريين تميزتا بالرفعة والنهوض وقوة الوجود ، وقد أخذ ذلك مني وقتاً غير قليل ، وأفنيت جهداً لا يستهان به في التعرف على مجمل فترات سالف الأمم ، وكانت النتيجة في رصد الدواعي للسقوط ، والسبل في النهوض مدعومة بمقولات علماء الاجتماع ، لأنهم معنيون في هذا الميدان ، تحديداً لمناهج التغيير ، وتبياناً لمعايير الحركة السالبة وتوضيحاً لمقاييس الحركة المقابلة الموجبة . كما جهدت في أن أرصدها في القرآن الكريم ، لأني أولاً وأخيراً لا أعدل عن الانتماء إليه والارتباط به ، فهو منهل عرفاني ، وينبوع علمي وإيماني . فأما النتيجة فهي بعبارتي التالية :
لقد سقط الإنسان وسقطت معه إنسانيته ، وهوى وهوت معه حضارته ، يوم ساد الظلم ، وطغى الجهل ، وانتشرت الفحشاء ، وعشعشت السفاهة .
وإنما ينهض الإنسان وتنهض معه مجتمعاته ، وتبرق بالنور جنباته ، يوم يستقر العدل ، وترتفع راية العلم ، وتعم الفضيلة ، وتتركز في سمع الإنسان وبصره وبصيرته ركائز المسؤولية . وحين نقعِّد هذه العبارة وإذ نرتب مفاهيمها نقول : أشلاء الفوضى - وهي نهاية السقوط والانحدار والانحطاط - ظلم وجهل ورذيلة وسفاهة ، وهي مكامن الشر ومستودعه .
وأما أركان النظام - وهي غاية النهوض والصعود والدقة والارتقاء - فهي عدل وعلم وفضيلة ومسؤولية ، ولا يتجاوز الخير مواضعها . ولنسمع قبل القرآن مقولات مختصين في الاجتماع حول هذا ، فهم في ذلك راصدون ، والقرى، من وراء فهومهم وعلومهم محيط .
يقول ابن خلدون : " الظلم آفة المجتمع " . ويقول أفلاطون : " بالعلم يكون الإنسان ، وبالجهل لا يكون " . ويقول فولتير : " لو لم يكن الله لوجب اختراعه ، وإلا فكيف تحيا الفضيلة ، وتموتن الرذيلة ؟! " . ويقول أرسطو : " الفضيلة استعداد تقوّيه الممارسة ، والرذيلة اعتداء تموت معها الأخلاق " . ويقول ولسن : " وتبقى المسؤولية في الانتماء واللاانتنماء أساس الإنسان " . ويقول فروم : " على الإنسان أن يفتش في داخله عن حس المسؤولية ، لأن ذلك يعني وجوده " .
وأما القرآن الكريم فأعظم به سفراً جامعاً لمقومات الرقي والعلو والسموّ داعياً إليها ، وكذلك مصدراً موثقاً ، يحوي موهنات الإنسان ، ومحذرة منها ، فقد جاءت الآيات فيه رائعة قيمة ، حذرت من الظلم والجهل وارذيلة والسفاهة، ودعت إلى اجتنابها :
قال تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) التوبة / 36 . وقال تعالى : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء ) البقرة / 59 . وقال الله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) النساء / 160 .
وأما ما جاء عن الجهل ، والتحذير منه ، والتنفير من عواقبه ، فقد قال الله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) الأعراف / 199 . وسواها من الآيات وفير . وعن الفحشاء جاءت آيات كثيرة تحذر من فعلتها وقولتها ، منها : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) الأنعام / 151 . وقال عن السفاهة : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) البقرة / 130 .
سبل النهوض :
وأما ما يتعلق بمقومات النهوض وسبله ، فقد قال تعالى عن " العدل " الأسّ الأول للنهوض : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) النحل /90 . وقال الله تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة / 8 . وقال الله تعالى : ( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر وهو كَلٌّ على مولاه أينمل يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) النحل / 76 . وعن العلم الذي هو السبيل الثاني للنهوض ، قال الله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منك والذين أوتوا العلم درجات ) المجادلة / 11 . وقال الله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ) آل عمران / 18 . وأما الفضيلة والعفاف ، فقد قال القرآن الكريم فيهما : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً ) البقرة / 173 . وقال الله تعالى : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) البقرة / 273 ، والفضل فضيلة . وأما المسؤولية وضرورة استثمارها ، فقد قال الله تعالى: ( فوربك لنسألنهم أجمعين . عما كانوا يعملون ) الحجر / 92-93 . وقال الله تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) الأعراف / 6 .
وهناك شواهد أخرى وفيرة كثير على مستوى الكتاب الأصل ، وهو القرآن الكريم ومستوى التبيان والشرح ، أ ني السنة الشريفة .
خاتمة :
ولعل هناك من يستاءل عن الإيمان بالله ، إن كان سبيلاً من سبل النهوض ، فإني أقول :
لم أذكر الإيمان بالله سبيلاً من السبل ، وإنما الإيمان في رأيي أساس لكل السبل ، يحدد منطلقها في النية والباعث ، كما يحدد اتجاهها في الغاية والهدف . وإذا فُقد فلا شك بأن سُبُل النهوض حينها تغدو في أحسن أحوالها محدودة ضمن أُطر المادة ، والمادة فقط ، وكلنا يعلم أن الإنسان ليس مادة فحسب ، كما أن مجاله الزماني والمكاني لا يقف عند حدود هذه الدنيا زماناً ومكاناً ، بل يتجاوزها إلى مقابلها الآخرة ، التي تعني الامتداد السليم والطبيعي للدنيا ، وإلا قيّدنا الإنسان - الذي خُلق ليبقى - بالفناء ، وحكمنا عليه بالانتهاء ، وقضينا عليه بالتكليف نتيجة المعاكسة لمنطلق الوفاء ، والجزاء والأجر والثواب والعقاب والقصاص .
تلك حكاية النهوض مجردة عامة ، يحوطها الإيمان ويكتنفها في النهاية والبداية الحب الذي يحمل على الصبر والتحمّل ، الحب الذي لا غنى للناهض عنه ، لأن الحب سمو ورفعة في عالم الوجدان ، يرفع به الإنسان ما حوته يداه ، وما تبناه عقله ، وما سكن قلبَه في عالم الحياة .
والحمد لله رب العالمين


- ألقيت هذه المحاضرة في المركز الثقافي في سلقين ، سورية / 1996
- وفي المركز الإسلامي في مدينة ميونيخ ، ألمانيا / 1996

التعليقات

شاركنا بتعليق