لا يتم النهوض إلا
على أساس
من الإيمان ودعم من الحب وطهر من الضمير والوجدان
الحمد لله من أنعم على
آدم بالوجود ، وعلى الإنسان بالعهود ، والصلاة والسلام على رسوله من دعا
إلى النهوض والصمود ، وآله الأبرار ، وصحبه الأخيار ، وعمن رشد إلى اليوم
الموعود .
كيف تم الاختيار ولماذا ؟
كان عنوان المحاضرة اختياري على الهاتف ، إذ طلب مني مدير المركز الثقافي
موضوعاً لمحاضرة في بلدة سلقين الطيبة المؤمنة، فاستحسنه ، ولم يكن في خلدي
- وقتها - تصور مفصل عن العنوان والمحاضرة ، سوى أن الفكرة الإجمالية لم
تكن لتغادرني في يوم من الأيام ، منذ نعومة الأظفار في رحاب العلم وإلى
الآن ، ولطالما اشتدت وقويت - أعني الفكرة - عقب أسفار وتجوال في مختلف
الأقطار والبلدان لا سيما في ما اتخذ منها عنوان الإسلام وتنادى أهلوها إلى
ساحاته والانضواء تحت لوائه ، وقد تهادى إلى سمعي وأنا على الهاتف كلمات من
الأستاذ المدير فهمت منها رغبة في إضافة كلمة أخرى على " سبل النهوض " ،
فقلت : فليكن " سبل النهوض الإنساني " ، طامعاً في ذلك نيل زيادة موضوعية ،
وتعميق تعميم يتجاوز دوائر البلاد ومحيط الاعتقاد ، ولكني في نفس الوقت
الذي وسَّعت كنت أذكر عبارة هارون الرشيد حين قال للغيمة السائرة الماطرة :
" سيري وأمطري حيث شئت فإن خَراجك سيأتيني " ، لأقيس عليها عبارة أرددها
بيني وبين نفسي : " أيتها الأفكار الخيِّرة النافعة ، كوني حيث تشائين ،
مصدرك ديني ومآلك الالتحاق بأصلك في قرآن ربي " .
وما أدري لهذه العبارة سراً محدداً ، وإن كنت أملك بعض التفسيرات والدوافع
فأقول : لعلها ثقة مؤمن ، أو ركامات خير ناطقة في مستودع الفطرة ، أو
إسقاطات تاريخ زاخم ، أو كبرياء عربي وظفها الإسلام ونظفها ، أو هي مجموع
هذه التفسيرات معاً .
وعلى كل فالأمر لا زال في دائرة البحث والحوار ، وعلى من يفرض نتيجة فعلية
أن يجتهد في تقديم الرؤى البرهانية والدلائل الفكرية ، وكل قضية يراد بها
الإقناع تحتاج إلى برهان واقع ، لا إلى نبضة دافع .
كما أود أن أعرب عما كان يجول في نفسي من إعجاب لبعض المحاولات الجادة في
البحث عن طريق الخلاص وسبل النهوض ، سواء أكان عنوانها صريحاً في هذا أم لا
، وأخص بالذكر محاولة شكيب أرسلان في " لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم "
، ومحاولة الكواكبي في " طبائع الاستبداد " وجهد الأفغاني ، وعبده ، ورضا ،
والندوي ، والمودودي ، وقطب ، وجدعان ، ومالك بن نبي .
وها أنا ذا أساهم بتواضع ، فلعلنا كلنا نشكل نواة انطلاقة لعلم جاد يعقبه
عمل صالح ، فأنفع المعارف ما حققت للإنسان في مساره تقدماً ، وشرها ما
لوَته عن الخير المناسب ، وقطعته عن السماء : ( يحسب أن ماله أخلده . كلا
لينبذن في الحطمة ) الهمزة / 3-4 .
تقصٍّ لتسميات نهضوية في القرون السالفة القريبة :
لقد كانت القرون الثلاثة الأخيرة ظرف إقرار من كل من سكن الكوكب الأرضي أن
الإنسان يعيش حالة انحدار بعد فترة اعتلاء ، وتختلف المسافة الزمنية ضمن
القرون المذكورة باختلاف البلاد والقارات ، والمهم أن الإحساس بالحال
المتردية كان السمة المرتسمة على الوجه الإنساني بشكل عام . وقد طفح هذا
الإحساس ليأخذ شكل البحث عن حل ، وإعادة رفع الخط البياني من القعر إلى
مستوى يتجاوز علواً ما كان عليه سالفاً ، وتجلَى هذا في الدعوات الإصلاحية
العامة العالمية في مختلف البقاع والأصقاع ، ومن خلال تسمياتها وشعاراتها ،
فمن التنوير إلى الإحياء ، فالنهضة فالتحرير والترقي والبناء والإنقاذ
واليقظة والإخاء والبعث والرفاه والإصلاح ، وهي بمجموعها في النهاية تصب في
معنى واحد ، هو إعادة الخط البياني الراصد لمسيرة الإنسان إلى مستوى أفضل
أو مساوٍ لما كان عليه في زمن القمة ، المختلف تحديده بحسب الأمة والدولة
والإيديولوجية .
وتأتي أسطري هذه مساهمة متواضعة تسعى للتأكيد ، وإسقاط بعض الصوء على
المنطلق ، وتبيان أساسيات في التحديد والتجديد .
لذا فقد عممت واختزلت حتى لا يكون الأمر من أجل بقعة جغرافية محدودة أو
جماعة مقصودة ، وإنما - والهم إنساني شامل - من أجل إنسان " النواة " ،
إنسان " الجذر " ، إنسان " المحور " ، إنسان " القطب " ، إنسان " المركز "
في التركيبة العامة . فإلى الإنسان من أجل إزالة سبل الغموض ، وإليه من أجل
استبانة سبل النهوض .
لستُ منحازاً ، ولا أريد أن أكون ممالئاً ، فلقد أقسمت بالحق أن أبغيه ،
وبالحق ألا أعدل عنه ، وبالحق أن أخدم الإنسان ، وأجمل ما في الحياة خدمة
الإنسان وإن عدا ، والسعي من أجله وإن أعرض : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم
فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو
شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) الأنعام /35 .
بمهمة وأهمية دعوة الإنسان بعد الاصطفاء الإلهي له ، وإيداع سر الخلافة فيه
، وبمهمة وهداية الإنسان حين يضل بعد أن كان محلاً لنفخ الروح الأحيائية
التكريمية التقديسية ( فالأرض تَبَرُّ هذا الإنسان ) ، كما ورد عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لأنه منه وأضيف عليه بما ليس منها : ( فإذا سويته
ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) الحجر / 29 .
دواعي الانحطاط والسقوط :
قلَّبت صفحات التاريخ البشري ورقة من هنا ، وأخرى من هناك ، فوصلت إلى وضع
معادلة إنسانية شاملة عامة ، في تحديد دواعي السقوط ، ورسم ملامح الرقي
والنهوض ، إجمالاً . قاطعت بين فترتين مختلفتين ، لأمتين متغايرتين ،
تميزتا بالانحدار والهبوط ، فأخذت مشترك صفاتهما المسببة آنذاك ، وكذلك
فعلت بفترتين أخريين تميزتا بالرفعة والنهوض وقوة الوجود ، وقد أخذ ذلك مني
وقتاً غير قليل ، وأفنيت جهداً لا يستهان به في التعرف على مجمل فترات سالف
الأمم ، وكانت النتيجة في رصد الدواعي للسقوط ، والسبل في النهوض مدعومة
بمقولات علماء الاجتماع ، لأنهم معنيون في هذا الميدان ، تحديداً لمناهج
التغيير ، وتبياناً لمعايير الحركة السالبة وتوضيحاً لمقاييس الحركة
المقابلة الموجبة . كما جهدت في أن أرصدها في القرآن الكريم ، لأني أولاً
وأخيراً لا أعدل عن الانتماء إليه والارتباط به ، فهو منهل عرفاني ، وينبوع
علمي وإيماني . فأما النتيجة فهي بعبارتي التالية :
لقد سقط الإنسان وسقطت معه إنسانيته ، وهوى وهوت معه حضارته ، يوم ساد
الظلم ، وطغى الجهل ، وانتشرت الفحشاء ، وعشعشت السفاهة .
وإنما ينهض الإنسان وتنهض معه مجتمعاته ، وتبرق بالنور جنباته ، يوم يستقر
العدل ، وترتفع راية العلم ، وتعم الفضيلة ، وتتركز في سمع الإنسان وبصره
وبصيرته ركائز المسؤولية . وحين نقعِّد هذه العبارة وإذ نرتب مفاهيمها نقول
: أشلاء الفوضى - وهي نهاية السقوط والانحدار والانحطاط - ظلم وجهل ورذيلة
وسفاهة ، وهي مكامن الشر ومستودعه .
وأما أركان النظام - وهي غاية النهوض والصعود والدقة والارتقاء - فهي عدل
وعلم وفضيلة ومسؤولية ، ولا يتجاوز الخير مواضعها . ولنسمع قبل القرآن
مقولات مختصين في الاجتماع حول هذا ، فهم في ذلك راصدون ، والقرى، من وراء
فهومهم وعلومهم محيط .
يقول ابن خلدون : " الظلم آفة المجتمع " . ويقول أفلاطون : " بالعلم يكون
الإنسان ، وبالجهل لا يكون " . ويقول فولتير : " لو لم يكن الله لوجب
اختراعه ، وإلا فكيف تحيا الفضيلة ، وتموتن الرذيلة ؟! " . ويقول أرسطو : "
الفضيلة استعداد تقوّيه الممارسة ، والرذيلة اعتداء تموت معها الأخلاق " .
ويقول ولسن : " وتبقى المسؤولية في الانتماء واللاانتنماء أساس الإنسان " .
ويقول فروم : " على الإنسان أن يفتش في داخله عن حس المسؤولية ، لأن ذلك
يعني وجوده " .
وأما القرآن الكريم فأعظم به سفراً جامعاً لمقومات الرقي والعلو والسموّ
داعياً إليها ، وكذلك مصدراً موثقاً ، يحوي موهنات الإنسان ، ومحذرة منها ،
فقد جاءت الآيات فيه رائعة قيمة ، حذرت من الظلم والجهل وارذيلة والسفاهة،
ودعت إلى اجتنابها :
قال تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) التوبة / 36 . وقال تعالى : (
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء ) البقرة / 59 . وقال الله تعالى
: ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) النساء / 160 .
وأما ما جاء عن الجهل ، والتحذير منه ، والتنفير من عواقبه ، فقد قال الله
تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) الأعراف / 199 .
وسواها من الآيات وفير . وعن الفحشاء جاءت آيات كثيرة تحذر من فعلتها
وقولتها ، منها : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) الأنعام /
151 . وقال عن السفاهة : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه )
البقرة / 130 .
سبل النهوض :
وأما ما يتعلق بمقومات النهوض وسبله ، فقد قال تعالى عن " العدل " الأسّ
الأول للنهوض : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) النحل /90 . وقال الله
تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) المائدة / 8 . وقال الله تعالى : ( وضرب
الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر وهو كَلٌّ على مولاه أينمل يوجهه لا
يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) النحل / 76 .
وعن العلم الذي هو السبيل الثاني للنهوض ، قال الله تعالى : ( يرفع الله
الذين آمنوا منك والذين أوتوا العلم درجات ) المجادلة / 11 . وقال الله
تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط
) آل عمران / 18 . وأما الفضيلة والعفاف ، فقد قال القرآن الكريم فيهما : (
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً )
البقرة / 173 . وقال الله تعالى : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) البقرة / 273
، والفضل فضيلة . وأما المسؤولية وضرورة استثمارها ، فقد قال الله تعالى: (
فوربك لنسألنهم أجمعين . عما كانوا يعملون ) الحجر / 92-93 . وقال الله
تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) الأعراف / 6 .
وهناك شواهد أخرى وفيرة كثير على مستوى الكتاب الأصل ، وهو القرآن الكريم
ومستوى التبيان والشرح ، أ ني السنة الشريفة .
خاتمة :
ولعل هناك من يستاءل عن الإيمان بالله ، إن كان سبيلاً من سبل النهوض ،
فإني أقول :
لم أذكر الإيمان بالله سبيلاً من السبل ، وإنما الإيمان في رأيي أساس لكل
السبل ، يحدد منطلقها في النية والباعث ، كما يحدد اتجاهها في الغاية
والهدف . وإذا فُقد فلا شك بأن سُبُل النهوض حينها تغدو في أحسن أحوالها
محدودة ضمن أُطر المادة ، والمادة فقط ، وكلنا يعلم أن الإنسان ليس مادة
فحسب ، كما أن مجاله الزماني والمكاني لا يقف عند حدود هذه الدنيا زماناً
ومكاناً ، بل يتجاوزها إلى مقابلها الآخرة ، التي تعني الامتداد السليم
والطبيعي للدنيا ، وإلا قيّدنا الإنسان - الذي خُلق ليبقى - بالفناء ،
وحكمنا عليه بالانتهاء ، وقضينا عليه بالتكليف نتيجة المعاكسة لمنطلق
الوفاء ، والجزاء والأجر والثواب والعقاب والقصاص .
تلك حكاية النهوض مجردة عامة ، يحوطها الإيمان ويكتنفها في النهاية
والبداية الحب الذي يحمل على الصبر والتحمّل ، الحب الذي لا غنى للناهض عنه
، لأن الحب سمو ورفعة في عالم الوجدان ، يرفع به الإنسان ما حوته يداه ،
وما تبناه عقله ، وما سكن قلبَه في عالم الحياة .
والحمد لله رب العالمين
-
ألقيت هذه المحاضرة في المركز الثقافي في سلقين ، سورية / 1996
- وفي المركز الإسلامي في مدينة ميونيخ ، ألمانيا / 1996
التعليقات