كفانا في بلادنا منظِّرين وموجهين، فإلى متى سنظل نخرِّج أناساً من وطني يرشدون ويتخذون من أنفسهم سُلطويِّين يتكلمون بنصح الآخرين وهم عن نصح أنفسهم معرضون !
لقد شبعنا كلاماً، فكلُّ أسبوع ينطق خطباؤنا - في حلب فقط - ما يزيد على عشرة مجلدات يرشُّونها على الناس، وينتظرون بعدها من هؤلاء ولاء.
لقد كثر الموجِّهون وقلَّ الموجَّهون، وحسبنا أننا بكلامنا أدَّينا مهمَّتنا وبلَّغنا رسالتنا، و ها نحن بشرنقةِ كلامٍ رنَّان طواه التاريخ، بل لفَظَه، محوطون; فالخطاب السياسي طويل، والديني مملول، والاقتصادي قاسٍ لا يمتُّ إلى التقعيد العلمي بصلة، وكذلك الاجتماعي إذ هو خالٍ من كل نبرة واقعية أو فهم إنساني عميق.
يا ويلنا، لقد قزَّمنا ماضينا بإسفافٍ في حاضرنا، يا بؤسنا حتى علائق ما بيننا تشتكي تدهوراً يصل إلى حدِّ الانتحار أو الإعدام، ويظن واحدنا أنه مدعو إلى القمة بمجرد كلمة أو لحن أو بسمة مجاملة.
حسبنا - ويكفينا - أن نخرِّج في ميدان الشريعة قلَّة نوعية جادَّةً واعية عارفة، ولنلتفت إلى تخريج كوادر علمية حياتية في ميادين العمل والبناء والاختراع والإبداع، ولا يقولنَّ أحدٌ: طال السُّرى، فتجارب الآخرين جلية، وتشكِّل ظاهرة تدعو من أدبر وتولى إلى حسن الاعتبار، وحسبنا أيضاً أن يختصَّ قليلٌ من شبابنا في السياسة، وليلتفت باقيهم إلى برمجة المستقبل في ضوءِ تقنيات العصر اكتفاءً ذاتياً في أول الأمر، ليصار بعدها إلى تصدير وتفاعل، فإلى متى نبقى في وهاد الضعف نحس بها عند المواجهة أو المجاملة.
كم نفرح لرؤية شبابنا في الميادين النظرية - لاسيما الدينية منها والسياسية - و ما أسرع ما تذهب الفرحة حين نرى هؤلاء يستجدون نتاج الآخرين، ويجهدون - مخفقين - في التأكيد على نجاعة ما لديهم، وتفوق تخصصاتهم على ما ينتجه الآخرون ; علماً أن من يعطف عليهم ويسترحمونه في حياتهم لا يشعر بحاجته لما عندهم، وما هم بقادرين على إشعاره ! فما بالنا سُكارى إلى حدِّ البلاهة ?! وبلهاء إلى حد الغيبوبة ! وغائبون إلى حدِّ فقدان الوعي الإنساني ! وها نحن تحت وطأة فهمٍ فاشل أو لا فهم ونحسبه ببلاهتنا ديناً، والدين الحق - وأيـم الحق - غير هذا.
لنصمت ونعمل، ولنبعد أنفسنا عن دائرة انتظار المعجزات، فالله قد آذن برفعها بعد أنبيائه، وطلب من أتباعهم عملاً، وعملاً فحسب: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
د. محمود عكام
أمريكا/1996
لمتابعة موقعنا على الفيس بوك لطفاً اضغط هنا
التعليقات