في كل محنة منحة
أما بعد ، أيها الإخوة
المؤمنون :
حسبي أن أقول في البداية :
الشِّدة أَوْدَت بالمُهَجِ |
يا رب فَعَجِّل بالفَرَجِ |
جِئناكَ بقلبٍ مُنكَسرٍ |
ولسانٍ بالشَّكوى لَهِجِ |
يا خالقنا يا رازقنا |
قد ضاق الحبلُ على الوَدَجِ |
يا ربِّ بهِم وبآلهم |
عَجِّل بالنصر وبالفرَجِ |
أيها الإخوة المسلمون :
وتطول المصيبة ، وتمتد فتراتها وأزمنتها ، ولكن هذا لن يكون سبباً - وحاشا
- لليأس ، ولن يكون سبيلاً إلى ذلك ، ولا طريقاً تفضي إلى اضطراب أو إلى
حيرة ، ولكن : أليس يقال : إن المصيبة إذا طالت كان ذلك أدعى لزيادة التفكر
ولزيادة الاعتبار . إذا طال زمن المصيبة فذاك أدعى للاعتبار ، وتوضيح
الحقائق ، ومعرفة ما في فكري من دقائق ، وكان ذلك أدعى إلى كشف اللثام عمن
هم كرام وعمن هم لئام . تشتد المصيبة وتعظم ، ويعظم الابتلاء ، ولكن : (
أليس الصبح بقريب ؟! ) " ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا ؟! " يا رب : إلى
متى ؟! ولكننا نقول إجابة لكل هؤلاء : إن ذلك خير ، " عجباً لأمر المؤمن ،
إن أمره كله له خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء
صبر فكان خيراً له " والصبر ليس خنوعاً ولا استسلاماً ، والصبر ليس ذلاً
ولا تضييعاً ، ولكن الصبر زيادةُ عمل ، وزيادةُ تضحية ، وزيادةُ ثبات ،
وبذل المزيد من أجل رفعة المبدأ الحق والصدق .
فكرت فيمن فكر ، فقلت : ما هي الحقائق التي أخذت بوادرها بالظهور ، والتي
أدت إلى ظهور البوادر هذه المصائب والابتلاءات التي نعيشها ، ما الذي يمكن
نلمحه في سُجف غيبٍ آتٍ قريبٍ ، ونحن ننظر المصائب وقد طالت وتكاثرت ،
اعتقادي ونظرتي أن بوادر حقائق أخذت بالظهور والوضوح التي ستظهر بشكل أجلى
وأوضح ، هي أربع :
الأولى : لقد أثبتت هذه المصائب بعد أن طال زمنها ، وربما يطول أكثر أن
الإسلام هو المبدأ الحق ، وأنه ملاذ البشرية كلها ، وأنه ملاذ كل الإنسان ،
وكما كنا نردد في مسيراتنا - رحم الله أيام المسيرات الحرة - كنا نردد : لا
شرقية ولا غربية ، ولكن إسلامية ، فعلاً : الإسلام هو المبدأ الحق ، ولا
نقول هذا للمسلمين فقط ، ولكننا نقول هذا للعالم كله ، لأن الإسلام عدل كله
، رحمة كله ، حق كله ، لأنه سداد كله ، وكرامة كله ، لأنه إحسان كله .
عدل كله : أَوَلستم تقرؤون في كتاب الله عز وجل وجل : ( إن الله يأمر
بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي )
أوَلستم تقرؤون قول الله عز وجل وجل : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا
تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أوَلستم تقرؤون قول الله عز وجل وجل فيما
يخص الرحمة : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، أوَلستم تقرؤون قول الله
عز وجل وجل : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) لأن
الإسلام عزٌ كله ولأن الإسلام صواب كله ، لأن الإسلام رحمة كله ، ولأن
الإسلام إحسان كله ، ونحن نعاني من نقائض هذه السمات التي ذكرناها ، نعاني
من نقائض العدل ، ونعاني من الظلم ، أمريكا ظالمة ، وإسرائيل ظالمة ، وكذلك
بعض حكامنا ظالمون ، بعضٌ من شعوبنا ظالمون . لأننا نعاني من الظلم ، لذلك
قلنا الحقيقة الأولى : الإسلام هو الذي سيكون ملاذ البشرية وموئل الإنسانية
، ولقد رأيت فيما مضى مقابلة مُتَلفَزة مع كبير رهبان مدينة جنيف السويسرية
منذ أكثر من خمس سنوات : يقول في هذه المقابلة : آمل لشعوب العالم ومن
حكومات العالم أن لا تبالغ في عداوتها للإسلام ، لأنني كما أرى من خلال
ساعة صفاء بيني وبين نفسي أرى أن لا يبالغوا في عداوتهم للإسلام لأن
الإسلام دين البشرية في النهاية ، دين الإنسان حينما يريد أن يكون إنساناً
، حينما يصحو الإنسان على إنسانيته ، حينما ينطلق من فطرته .
الحقيقة الثانية : أن القضية المركزية للعالم كلِّه هي القدس ، رمزاً
للبقعة المباركة التي قال الله عز وجل وجل عنها في سورة الإسراء : ( سبحان
الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله ) القضية المركزية الأساسية لكل العالم هي القدس ، هي الأقصى بالنسبة
لنا نحن الذين نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهذا أمر
مفروغٌ منه حسب ما جاء في الآيات والأحاديث ، وأما بالنسبة للمسيحية فكذلك
، أوَليست كنيسة المهد هي الكنيسة الأهم ، أوَليست القدس وما حولها هي مهد
المسيحية ؟! أليست القدس وما حولها هي منطلق المسيحية ، إذاَ هي قضية
أساسية بالنسبة للمسيحية وهي قضية مركزية بالنسبة لليهود ، لأن اليهود
يقولون إن القدس ، إن فلسطين ، إن الأقصى ، مكانهم المختار والذي وعدهم
الله به ، وإن كانوا يقولون - ونحن نعتقد وهم يعتقدون في داخلهم - أن هذا
كذب وزور ، لكنهم يَتَمَحوَرون حول ذلك ، ولو أنك قلت لهم : خذوا قطعة من
الأرض تساوي أضعافَ أضعافِ ما تساويه فلسطين لما رضوا ولما قبلوا ، ولما
عقدوا معك عقداً على هذا الأساس ، لأنهم يريدون فلسطين بالتحديد ، لأن
القدس تشكل النواة للخلافة الإسلامية القادمة ، وهم عندما يريدون فلسطين
يريدون أن لا تقوم للخلافة الإسلامية قيامة ، وهذا من منطلق العداوة وليس
من منطلق طلب الحق ، يصرون على فلسطين لأنهم يعرفون من خلال قراءتهم
للتاريخ ومن خلال ما صح في كتبهم أن القدس عاصمة المسلمين الموحدة المنتظرة
، ولذلك يصرون . القضية الفلسطينية أساسية ليس على مستوى الشعوب العربية
والإسلامية ، ولكن على مستوى العالم كله ، واقرؤوا ما يقوله المفكرون
وعلماء الاجتماع والسكان ، وعلماء استشراف المستقل ، فقد أجمعوا على أن أهم
منطقة في العالم اليوم هي فلسطين وما حولها ، الأقصى وما حوله ، لأن الله
عز وجل وجل قال : ( باركنا حوله ) هذا لدينا مُسَلَّماً ، أما الآخرون فهم
يعتقدون كذلك ، أوَليست هذه الأراضي أراضي أنبياء ومرسلين ، وقد تعاقب على
تلك البقعة من الأنبياء ما لم يتعاقب على مكة المكرمة ولا على المدينة
المنورة ، وكلنا يعلم ذلك . القضية المركزية الأساسية للعالم هي فلسطين ،
ففلسطين لم تعد دولة يَسأَل عنها أبناؤها ، ولم تعد مركزاً لقومية عربية
يَسأل عنها العرب ، ولم تعد مكاناً وعاصمة للمسلمين يسأل عنها المسلمون ،
لكنها غدت نقطة مركزية ليس لهؤلاء فحسب ، وإنما لكل العالم من شرقه إلى
غربه ومن شماله إلى جنوبه ، ولذلك عندما نقاتل من أجل فلسطين فإننا نقاتل
من أجل قضية فلسطينية عربية إسلامية إنسانية بشرية على مختلف تغيرات
الإنسان وتبدلاته .
الحقيقة الثالثة : أ، العدو الأكيد بالنسبة لنا هم الصهيونية ، اليهودية
الصهيونية ، والغرب الملحد ، حتى ولو كان هذا الغرب يدعي النصرانية -
فَوَالله ليس بنصراني وإنما هو ملحد - ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا
اليهود والذين أشركوا ) للذين آمنوا من المسلمين والمسيحيين ، الصهيونية
والغرب الملحد هم العدو الأكيد للإنسانية جمعاء ، وقد تَجَسَّد ذلك في
إسرائيل وفي أمريكا ، ونحن نعلم أن إسرائيل ( هذا الكيان ) ليس وحده وإنما
هنالك مُتَصَهيِنون من أبناء جلدتنا معه يدعمونه ، ويجب أن نعلم أيضاً أن
أمريكا ليست وحدها تمثل الغرب الملحد ولكن هنالك مُتَأَمرِكون من بني
جلدتنا أو من غير بني جلدتنا يدعمون أمريكا ، ولذلك نقول إن العدو الأكيد
الصهيونية المجرمة والغرب الملحد ، وأنا على يقين بأن المسيحيين في بلادنا
- لا سيما المنصفون - يقولون بهذا الكلام الذي قلته ، يقولون عن مسيحية
الإدارة الأمريكية بأنها ليست بمسيحية . لا أريد أن أستعرض التاريخ ،
ولكنني أقول لكم بأن الشيوعية إنما سُعِي إلى إيجادها في روسيا من أجل
القضاء على المسيحية الشرقية ، لأن الغرب الملحد وهو يتلبس لبوس المسيحية
إنما هو ضد المسيحية في حقيقته ، وما وجدت الشيوعية إلا للقضاء على
المسيحية الشرقية التي لا تعترف على المسيحية الغربية ، لكنها تجاملها ،
هذه حقيقة ثالثة ينبغي أن لا تغيب عن ذهننا .
وأما الحقيقة الرابعة : المسلمون هم المؤهلون للقيادة والريادة في هذا
العالم ، إذا قلنا إن الإسلام هو المبدأ الحق فإن المسلمين الذين ينتسبون
لهذا الإسلام هم المؤهلون للقيادة ، ولا نقول هذا تعصباً ولا اجتراراً
للتاريخ ، لكننا نقوله من باب التوصيف والاستنتاج القائم على دراسة مستقيمة
صادقة ، الله عز وجل وجل قبل كل شئ يقول : ( ونريد أن نمن على الذين
استُضعِفُوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) المسلمون هم
المؤهلون ولكن يجب على المسلمين أن يفكروا بشكل جيد ، تُرى هل يصلحون ؟ هل
تَصلُح من أجل أن تكون مشروع مسلمٍ رائد على مستوى الإنسانية ؟! هل أنا
مؤهل من أجل أن أنتسب حقيقة إلى أولئك الذين قدموا لنا هذه البلاد ، لأبي
عبيدة ، لعمار بن ياسر الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده رضي الله عنه
وأرضاه ، هل نحن على مستوى الانتساب الحق لهؤلاء إذا ما قلنا عنهم بأنهم
أجدادنا ، هل نحن حقاً أحفاد .
تطول المصيبة لكن سيؤدي ذلك إلى اعتبار ، إلى اختبار ، إذا كثرت المحن فلا
بد أن تكون في داخل المحن مِنَح ، والمنح حقائق تتجلى ، وأعظم منحة أن ترى
الحقيقة أمام عينيك ، أن تسمع الحقيقة بأذنك وتراها بعينك وتلمسها بيدك (
لا إله إلا أنا فاعبدني ) رأى الحقيقة موسى فسجد لله وذلك أعظم منحة وأعظم
عطاء .
المِحَن التي نمر بها ستؤدي بنا إلى مِنَحٍ إن كنا من أهل الاعتبار والعبرة
، ولكن ستؤدي بنا إلى تقهقر والى ضياع ربما لا نخرج منه إلا بعد آلاف
السنين ، بعد أن يأتي من يعتبر ، هذه المحن طريق اعتبار وإلا فهي طريق دمار
، إما الاعتبار وإما الدمار ، وإما بعد الاعتبار سعيٌ وجِدٌ وعمل ، وبعد
الدمار ذل وقهر ، بل سيادة ذل وقهر ، وخذوا هذه الكلمات وفكروا فيها ،
فكروا في هذه الحقائق الأربع . المسلمون هم المؤهلون - وليعذرني أولئك
الذين ينتسبون إلى المسيحية - فأنا لست ضدهم ولكن هذا جاء نتيجة دراسة ،
حينما أقول إن المسلمين هم المؤهلون للقيادة والريادة فإنما أعني دعوة
مفتوحة من القلب للمسيحيين من أجل أن يكونوا مسيحيين بحق ، وحينما يكونون
مسيحيين بحق سيأتون من أجل أن يكونوا مسلمين ، وسيُسَلِّمون بهذا القرآن ،
ولذلك من منطلق إرادة الخير أقول إن المسلمين ولكن لا يفهمن أحد أنني أقول
عن المسلمين الحاليين كلهم ، ولكني أقول عن المسلمين الذين يتمثلون الإسلام
في صيغته المثلى و الصائبة والحقيقية ، عن هؤلاء ، لأننا بحاجة إلى دين
وإلى من يتمثل الدين ويعتنق الدين ، لأن الحق من دون حماة له وحاملين له لا
يمكن أن يعلو ، بل لا بد للحق من حملة ، وحملة الحق هم المسلمون ، فأسأل
الله أن يوفق الكون كُلَّه من أجل أن يسلم لأن في إسلامه العدل والرفعة
والرحمة والأمان والاطمئنان ، ولنعم الرب القائل في كتابنا ودستورنا الحكيم
: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) اللهم اجعلنا ممن يأخذ أو يُعطَى
المنح بعد المحن واجعلنا ممن إذا طالت المصائب بهم يعتبرون ويتعظون ويتخذون
دروساً لمستقبل أفضل ومشرق ، إنك على
كل شئ
قدير ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات