أما بعد ، أيها الإخوة
المؤمنون :
سألني رجل عن سبب تأخرنا ، عن أسباب مشاكلنا ، ما الذي قصّرنا فيه ولا زلنا
مقصرين حتى غدونا في مثل هذه الحال ؟ أسئلة كثيرة تتكرر على الألسنة ، وتتردد
على العقول ، يبحث الواعي دائماً عنها ، يرى الإنسان نفسه في كثير من الأحيان
مُشبَعاً من حيث نقطة التساؤل عنده بها . قلت له وبكل بساطة : من التربية . من
التربية تبتدئ المشكلة وفي التربية تستمر المشكلة وعند التربية تنتهي المشكلة .
بمعنىً آخر : نحن في ميدان التربية مُقصِّرون ، نحن في التربية من حيث كوننا
مربِّين ومن حيث كوننا مربَّيين نجد أنفسنا مقصرين ، لا أريد أن أجعل الأمر
عاماً ، لكنني توجهت معه بالحديث حول نقطةٍ وأحببت أن أعرضها عليكم هذا الأسبوع
. قلت له وانطلقت بالحديث معه من خلال هذه النقطة ، قلت له : ألا ترى أننا مع
أطفالنا وتلامذتنا وطلابنا أشبَعنا بطونهم ، لكننا جوَّعنا أو فرَّغنا عقولهم
؟! ألا ترى أننا اهتممنا بأجسادهم ولكننا عدلنا باهتمامنا عن أرواحهم ! ألا ترى
أن الواحد منا أباً ( كأب ) أو أستاذاً ( كأستاذ ) غدا ينظر إلى الدنيا من خلال
شهواتها ، وغدا ينظر إلى أولاده من خلال تحقيق شهواتهم وليس حاجاتهم ! ألا ترى
أننا نُسَرُّ جداً حينما نضع أمام أطفالنا موائد منوعة ، ألا ترى أننا نُحس
ونشعر بالغبطة والسرور حينما نأتي بالطعام والشراب على تنوِّعه لبيوتنا ! ألا
ترى أننا نُمتدح إذا ما قدمنا طعاماً أوشراباً مادياً من قبل أحمائنا - من قبل
أهالي زوجاتنا - من قبل أولادنا ! ألا ترى أن المرأة تَمدح زوجها فتقول : هذا
الرجل لا يُقَصِّر في جلب ما نريد دائماً ، فالثلاجة مملوءة بأنواع الطعام ،
والتسالي الأكلية أيضاً مملوءة وهكذا .. وكأننا وكما يقول المثل الصيني المعروف
: أصبحنا نعيش لنأكل . أصبحنا نعيش من أجل أن نجد لذة اللسان ولذة البطن ،
أصبحنا نعيش من أجل أن يفاخر بعضنا الآخر بكميات الطعام التي يُدخلها ،
وبالفضلات التي يرميها ، أصبحنا يتفاخر بعضنا على بعض بقدر ما ينزل إلى سوق
الطعام وإلى سوق الشراب ، أصبحنا نَحُثُّ أولادنا على ضرورة اللباس المتأنق
أمام زملائهم ، ونقول يا أولادنا : لا تخرجوا إلى الناس بلباس غير لائق فأنتم
أولاد فلان . انتبهنا جداً - والانتباه هنا سلبي - انتبهنا إلى الطعام والشراب
ولكننا لم ننتبه إطلاقاً ولم نُعِر عقول أبنائنا ، عقول طلابنا ، عقول تلامذتنا
، عقول من نربيهم ، عقول جنودنا ، لم نُعِر ذلك اهتماماً ، فما اتهمنا بعضنا
بعضاً في الأسرة بأننا مقصرون حيال العقل لأننا غائبون عن العقل والعقل غائب
عنا ، لم تتهم زوجة زوجها بتقصير حيال عقول الأولاد أو حيال معارف الأولاد ،
أقول هذا وأنا أحدث سائلي هذا الحديث خَطَر في بالي دعاءٌ سمعته عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ، ولطالما دعونا به على المنابر : " اللهم لا تجعل الدنيا
أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " ولكن ما انتبهت إليه أكثر هو تتمة الدعاء : " لا
تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك
ولا يرحمنا " إذا كانت الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا فإن الله سيسلط علينا من
لا يخافه ولا يرحمنا ، سببٌ أو مقدمة - كما يقول المناطقة - ونتيجة ، لا تجعل
الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا
يرحمنا ، وتابعت الحديث مع سائلي وقلت له : أوليس النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يقول في حديث آخر يرويه البخاري ومسلم وهذا الحديث سمعناه من سيدنا عبد
الله بن عمر يوم رأى رجلاً مسلماً يأكل كثيراً ، فالتفت إليه وقال : يا هذا !
سمعت النبي عليه وآله الصلاة والسلام يقول : " المؤمن يأكل في معِيٍّ واحد ،
والكافر يأكل في سبعة أمعاء " خفف الأكل لتفكر جيداً ، خفف الطعام وألوانه من
أجل أن تَعِيَ وجودك ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر يرويه
الترمذي وسمعناه كثيراً يقول : " ما ملأ ابن آدم وعاءً شر من بطنه ، بحسب ابن
آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه "
هذه من التربية الجسدية التي تشكل أساساً للتربية العقلية والمعرفية
والاجتماعية ، لكننا حينما نأخذ عكس الاتجاه الصحيح فإنها ستكون سبب دمارٍ
للعقل والسلوك الحسن ، شرار الناس الذين غُذّوا بالنعم ، الذين يأكلون ألوان
الطعام ويلبسون ألوان اللباس ويتشدقون بالكلام ، هذا ما يقوله النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عن أولئك شرار الناس ، شرار الخلق ، ويقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كما يروي أحمد في مسنده : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوات في بطونكم
وفروجكم ومضلات الهوى " النتيجة إن كنا كذلك أي إذا خالفنا هذه المبادئ وكنا
مشبعي الأجساد وكنا متوجهين إلى البطون وكنا ملوّنين في الطعام وكنا ملونين في
اللباس سيسلط علينا من لا يخاف الله ولا يرحمنا ، سنكون في الآخرة نادمين وفي
الدنيا ذليلين :
أنت القتيل بأي من أحببته |
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي |
أيها الإخوة : كنت في فرنسا
منذ عقود ، وظَهَرت على شاشة التلفاز وزيرة الصحة الفرنسية آنذاك ، وتوجهت إلى
الفرنسيين وقالت لهم : بدأت أَلْمَح في سلات القمامة نفايات طعام كثيرة ، وأنا
أحدثكم بعد أن قمت بجولة على أمكنة القمامة فرأيت نفايات الطعام الكثيرة ،
عندها قلت : إن الشعب الفرنسي إذا استمر على ذلك فإنه سيضيع حتماً وسيتأخر
حتماً وسيتردى حتماً ، وأنا - وتتابع كلامها وتقول - وأنا سمعت حكمةً من بلاد
المسلمين تقول - وآمل أن تلتزموا بها - تقول هذه الحكمة : " نحن قوم لا نأكل
حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " . فإذا شبعتم - أيها الفرنسيون - سقطتم لأن
أبخرة الطعام تؤذي العقل ، وتجعل الجسم كسولاً ، ولأن أبخرة الطعام تؤذي الحركة
الواعية أو حركة الوعي عند الإنسان . حين سمعت هذا تذكرت من جملة ما تذكرت
حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرويه أحمد في مسنده أنه كان عند
النبي عليه وآله الصلاة والسلام رجل فتجشأ - والتجشّأ علامة على كثرة الطعام ،
علامة شبع - فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " يا هذا ! كُفَّ عنا
جشأك " وفي رواية " كف عنا جشأك ، فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً
في الآخرة " كف عنا جشأك ، لا تُرنا نفسك وقد امتلأت طعاماً ، ونريد أن نراك
وقد امتلأت معرفة وفكراً وعلماً وفقهاً وسعياً للخير .
أيها الإخوة : حتى إذا ما أتينا الأسوة الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
سمعناه يقول كما جاء في صحيح البخاري ومسلم : " ما شبع - هكذا يقول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم عن نفسه ، أو لستم أحباب النبي ! أو لستم من متبعي النبي !
أو لسنا ممن يفاخر الدنيا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ! أو لسنا ممن ينظر
إلى النبي على أنه الأسوة والقدوة ، يقول عليه وآله الصلاة والسلام : " ما شبع
آل محمد منذ أن دخل المدينة ثلاث ليال تباعاً من خبز بُرّ حتى قُبض " لقد
حدثتكم منذ سنوات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يروي الطبراني أن
السيدة فاطمة رضي الله عنها خبزت خبز شعير وأتت ببعضه إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وقالت : يا أبتاه ! خبز شعير اشتهيته . سيدة نساء العالمين الزهراء
عليها السلام تقوم بخبز خبز شعير وتشتهي ذلك للنبي ، أعطته بعضاً من الرغيف ،
فتناوله النبي وأكله وقال : " يا فاطم ! هذا أول طعام يدخل جوف أبيك منذ ثلاثة
أيام " هذا أول طعام يدخل جوف أبيك منذ ثلاثة أيام . ويروي البيهقي أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم دخل حائطاً - أي بستاناً - فيه نخيل ، فوجد تمراً
فأكله ، وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فأكل النبي
التمرَ وقال لعبد الله بن عمر : يا عبد الله ! لمَ لا تأكل ؟! قال : يا رسول
الله ! تمر ردئ وإن نفسي تعافه . فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أما
أنا فإن نفسي لا تعافه هذه صبحٌ رابعة لم أذق فيها طعاماً .
أيها الإخوة : من باب الاقتصاد - ولست اقتصادياً - أقول : لو وفَّرنا من طعامنا
لاقتصادنا ولجهادنا ولديننا ، لو وفرنا بعضاً من طعامنا لإخواننا الجائعين ،
لإخواننا الذين لا يجدون ما يأكلون ، لو أكلنا التمر والخبز يوماً ، وأخرجنا
ميزانية هذا اليوم الذي كنا نريد أن نأكل فيه اللحم والشحم والحلوى ، لو أخرجنا
ميزانية يوم وقدمناها لإخواننا ، للفقراء في العالم ، لإخواننا ولغير إخواننا ،
لأننا ما دمنا ندَّعي أننا رحمة للعالمين فنحن مسؤولون عن الفقراء بل مسؤوليتنا
تتعدى المسلمين لتكون أيضاً عن غير المسلمين ، عن الفقراء في كل العالم . هل
تريدون أن تنصِّب نفسها منظمة غربيّة غير إسلامية مسؤولة عن جوع ينتاب غير
المسلمين وأنتم أصحاب الرسالة السامية العامة الشاملة - اعذروني - أنا لا أريد
الآن أن أتحدث عن فقراء غير المسلمين لأنني أرى فقراً في جَنَبَات المسلمين ،
أرى فقراً وحاجة وفاقة عند المسلمين ، وأرى أناساً - كما قال النبي عليه وآله
الصلاة والسلام - يأكلون ألوان الطعام وألوان الشراب ويتشدقون بالكلام . زرت
مرة جامعاً في تركيا ، فسألت عن اسم هذا الجامع فقالوا لي : إن اسم هذا الجامع
هو " كأني أكلت " ولما سألت عن سبب تسميته بهذا الاسم قالوا لي : إن بانيه قال
هكذا ، إنه كان إذا أراد أن يأكل وهو رجل ثري غني إذا أراد أن يشتي طعاماً ،
فبدلاً من أن يشتري الطعام الكثير المتنوع ، كان يشتري القليل الكافي الذي يسد
الجوع ويوفر الفارق ويقول كأني أكلت ، وكأني أكلت وهكذا إلى أن تَجَمَّع لديه
مال يكفي لإنهاض جامع ومسجد فبدأ به وبناه .
حدثني أستاذ لي فاضل رحمه الله في دمشق ، قال لي : يا بني : وضعت في ذهني أن
أتكفل بأسرتين وأنا موظف لا أملك إلا راتبي ، ولكنني قلت بيني وبين نفسي : هَبْ
أن هاتين الأسرتين أولادي ، هب أنني رزقت بعشرة أولاد ، ضممت بهاتين الأسرتين
إليَّ من أجل المسؤولية ووضعت نظاماً لشرائي الطعام واللباس ، فكلما ذهبت لشراء
طعام بدلاً من أن أشتري على سبيل المثال كيلو غرام من اللحم اشتريت نصف كيلو
ووفرت النصف الآخر للأسرتين ، وقلت إن الطعام الذي أريد أن أطبخه الآن بدلاً من
أن أضع فيه كيلو غرام من اللحم سأضع فيه نصف كيلو غرام . وهذا للصحة أحسن ،
وللتوفير أفضل ، وإعانة الفقراء أجمل ، وهكذا في كل ما أشتري .
أيها الإخوة : إذا كنا نهتم ونتوجه باهتمامنا إلى التربية العقلية فإننا سنتوجه
إذا صدقنا في توجيهنا ، سنتوجه ولا يستقلنَّ أحد منكم إمكانياته أو قدراته لا
سيما وأن النبي عليه وآله الصلاة والسلام قال في حديث صحيح : " سبق درهم مائة
ألف درهم " قالوا يا رسول الله وكيف ؟ قال : " أرأيتم إلى الرجل يملك درهمين
فأنفق درهماً فقد أنفق نصف ماله " أرأيتم إلى الرجل يملك عشرات مئات الألوف من
الدراهم أنفق مائة ألف درهم فأنفق عُشْرَ ماله " سبق درهم مائة ألف درهم " .
هذه حقيقة واضحة وبسيطة ، ولكننا لا نريد أن نتوجه إليها .
أعود إلى ما بدأت به " التربية " وإن ذممتها قلت التربية غير المتوازنة ، وإن
مدحتها قلت التربية الإسلامية المتوازنة . التربية المتوازنة سِرُّ علوِّنا ،
والتربية غير المتوازنة والتوجه بالتربية إلى البطن سر ذلنا وسبب قهرنا وسبب
انهماك عدونا وانقضاضه علينا ، هو هذا ، لذلك أتوجه إلى نفسي وأقول علينا أن
نعِيَ مسؤوليتنا في تربية الجيل الذي هو أمانة في أعناقنا في تربية أبنائنا ،
وأذكركم مرة ثانية بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه : " إن
أخوف ما أخاف عليكم الشهوات في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " إن أخوف ما أخاف
عليكم - وأنا أضع نفسي في ظلال أقدام النبي عليه وآله الصلاة والسلام لأنقل عنه
وبكل عزة هذا الحديث لأقوله - إن أخوف ما أخاف عليكم وعلى نفسي الشهوات في
بطوننا وفروجنا ومُضِلات الهوى ، فيا رب وفق أمتنا من أجل ألا تكثر من ألوان
الطعام ولا من ألوان الشراب ولا من ألوان الثياب ولا من التشدق في الكلام ، وفق
أمتي من أجل أن تعي رسالة البطن ورسالة العقل ورسالة الروح ، اللهم وفق أمتي من
أجل أن تتوجه إلى الأجيال القادمة إلى الأطفال إلى الأبناء إلى الطلاب إلى
التلاميذ من أجل أن تتوجه إليهم التوجه الذي كان عليه سيد الكائنات محمد عليه
وآله الصلاة والسلام . أكرر دعاء النبي قائلاً : اللهم لا تجعل الدنيا أكبر
همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ، نعم من
سأل أنت ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات