أما بعد ، أيها
الإخوة المؤمنون :
لا شك في أن كل واحد منا يكره كلمة الضياع مقرونةً مع ولده أو مع تلميذه أو مع أخيه
الصغير أو مع ابن وطنه ، ولا شك في أن كثيراً منا يشكو بعضنا لبعض ضياع أولادنا أو
مشروع ضياع أولادنا . فأنا أسمع من كثير منكم من يقول لي : أولادنا ضائعون ، في
طريق الضياع ، شبابنا تائهون ... الخ . لا أريد أن أقوم بحل هذه المشكلة في خطبة
واحدة ، لكنني وأنا أفكر في هذه القضية وجدتني أتحدث بيني وبين نفسي عن ضرورة
ارتباط الإنسان بالمكان النظيف وتذكرت قاعدةً يذكرها علماء النفس يقولون فيها :
للمكان أثره على المكين ، هذا الأثر هو الدعم والتحريض لنوازع الخير عند الإنسان إن
كان المكان خيراً ، والدعم والتحريض لنوازع الشر عند الإنسان إن كان المكان شريراً
. قلت في نفسي ربطاً بين هذا وبين ما سبق : لماذا لا نسعى من أجل أن يكون أولادنا
وشبابنا وطلابنا في أمكنة خيِّرة ؟! لماذا لا نعمل ونجهد على أن نربط شبابنا ،
طلابنا ، أبناءنا بالأماكن الخيرة حتى نحرِّض نوازع الخير عندهم ، فما من إنسان
يخلو من نوازع خير كما أنه ما من إنسان يخلو من نوازع شر ، فلم لا نسعى لنربط بين
شبابنا وبين الأمكنة الخيرة حتى نحرِّض ونقوي نوازع الخير فيهم ؟ وإذا سألتني أخي
المسلم عن أمكنة خيرة فإنني قائل لك باختصار : أشرف البلاد وأحبها عند الله مساجدها
كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح مسلم: " أحب البلاد – أو الأماكن
– عند الله مساجدها ، وأبغض البلاد – أو الأماكن – إلى الله أسواقها " قلت في نفسي
: لم لا نشجع أبناءنا على الارتباط بالمسجد ؟ لم لا ندعم ارتباط أولادنا بالمسجد ،
والمسجد هو أحب الأماكن إلى الله ، وقد جاء في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قيل : وما
رياض الجنة ؟ قال : المساجد . قيل : وما الرَّتع ؟ قال : سبحان الله والحمد لله ولا
إله إلا الله والله أكبر " .
ابتعد شبابنا عن المساجد ، إن لم أقل : أبعدناهم نحن عن المسجد ، حوَّلناهم عن
المسجد الذي هو روضة من رياض الجنة إلى روضة خضراء - وأنا أتكلم عن المباح – إلى
مزرعة ، إلى مصيف ، أشعرناهم بأن المسجد مكان لقضاء الصلاة بشكل سريع وبعدها عليك
من أجل أن ترتاح روحك أن تذهب إلى المزرعة ، إلى البستان ، إلى مكان آخر ، أنا لا
أقول : لا تذهبوا إلى مزرعة أو بستان ، ولكن لا تنسوا الارتباط بالمسجد الذي يعطي
للروح راحتها ، والذي يعطي للنفس اطمئنانها واستقرارها .
أيها الإخوة : نحن قوم – واعذروني إن تحدثت عن نفسي – نحن قوم رُبِّينا في المساجد
فترانا الآن إذا ما أحسسنا بضغط الحياة رفعناه حينما نولي وجوهنا شطر المسجد ،
نرتاح إذا دخلناه ، نشعر بالاستقرار ونحن نجلس فيه ، ونحن نتسامر مع بعضنا ، أليس
هذا المسجد أو سواه من الأمكنة التي ترتاح فيها أيها الأخ المسلم ؟ ألست تذكر أيها
الشاب عندما كنت صغيراً كيف كنت تذهب إلى مسجد حيك أو إلى المسجد الكبير في البلدة
التي تعيش فيها ، فترى هناك الرجال وترى النساء في أماكنهن ، وترى الأولاد يلعبون ،
وترى شرائح المجتمع المختلفة هناك تتلاقى ، لقد بدلنا بالمسجد مكاناً آخر خارج
المسجد ، وبدلاً من أن ترتاح أرواحنا تعقدت أرواحنا ، أريد لشبابنا لبراعمنا
لصغارنا ليافعينا أريد لهم أن يعيشوا في المسجد ، أن يرتادوا المسجد ، إذا رأيتم
الرجل – كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا رأيتم الرجل يتعهد – أو
يتعاهد أو يعتاد – المسجد فاشهدوا له بالإيمان " اذهبوا أنتم وأولادكم إلى المساجد
في غير وقت الصلاة وإبَّان وقت الصلاة من أجل أن تُروا أولاكم أنكم سعداء حينما
تكونون في المسجد . يقول عليه وآله الصلاة والسلام كما يروي البخاري : " من غدا إلى
المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح " ويقول عليه وآله الصلاة
والسلام كما جاء في البخاري أيضاً : " ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في
المسجد تقول : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ما لم يحدث " أي ما لم يتصرف تصرفاً لا
يليق بمسلم أو بالمسجد ، ولئن سألتني أيضاً يا أخي : ماذا تفعل في المسجد عندما
تدخل إليه ؟ أقول علَّمنا سيدنا وقائدنا وأسوتنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام
فقال كما يروي الحاكم وصححه : " من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو
يعلِّمه كان له كأجر حاجٍ أتم حجته " أي قبلت حجته ، ويقول عليه وآله الصلاة
والسلام كما يروي الإمام أحمد : " جليس المسجد على ثلاث خصال : أخٍ مستفاد ، كلمةٍ
حكمة ، ورحمة منتظرة " - تستفيد أخاً ، تتعرف على أخ ، أو تلتقط كلمة هي حكمة تفيدك
في حياتك وتنفعك في مسارك ، ورحمة منتظرة من الرحمن الرحيم ، لأن الملائكة تدعو لك
وتقول : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في
صحيح الإمام مسلم : " ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات ! إسباغ
الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة " إذا
ذهبت إلى المسجد فبكل خطوة يمحو الله بها سيئة عنك ، ويعطيك بها حسنة .
أيها الأحبة : أرأيتم إلى من يذهب إلى المسجد ، فإذا ما خرج منه انتظر اللحظة التي
سيعود بها إليه ، أرأيتم إلى ثوابه كيف عبر عنه كما جاء في البخاري في الحديث
المعروف المشهور : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : ورجل قبله معلق
بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه " كنت أقول بيني وبين نفسي ومن باب التناصح أو
من باب الأفكار المقترحة كما يقال : لو أننا حوَّلنا بعض ما نصرف على المزارع
والبساتين إلى المساجد – ليس من أجل بناء المساجد فقط حجارة – ولكن لو حولنا بعض ما
نصرفه على المزارع والأمكنة الأخرى ، لو حولناه إلى المساجد من أجل تعليم الشباب
القرآن ، من أجل لقاء الشباب بعضهم ببعض ، من أجل تعليمك الشباب العلم ، من أجل
المسامرة النظيفة ، من أجل تأمين حاجيات اللهو المباح في المسجد ، في صحن المسجد ،
أليس ذلك أمراً مطلوباً محمودة عقباه ؟! نحن نطالب شبابنا بأن تتحرك عندهم نوازع
الخير لكننا لا نهيئ لهذه النوازع تحريضاتها ودعمها ومناخها ، ولا تهيئ لهذه
النوازع دوافعها وأسبابها ومحرضاتها ، ونقول بعد ذلك للشباب لا تضيعوا . إن لم
تقترن الجامعة بالجامع فستضيع الجامعة ، إن لم ترتبط المدرسة بالجامع فستضيع
المدرسة ، ستكون المدرسة طريقاً إلى علم غير نافع ، إن لم نربط طفولتنا وأطفالنا
بالمسجد ، فطفولتنا مهددة إذ تكبر بالفساد واللهو . ابتعدنا عن المساجد وجعلنا
المساجد دوائر رسمية لقضاء الصلاة أو لأداء الصلاة لا أكثر ولا أقل ، لم يعد المسجد
مأوىً لروحنا ، محطة لراحتنا ، ابتعدنا عن المسجد عن وظيفته عن دوره عن مهامه ، أنا
أشعر - وأعتقد أن كثيراً منكم كذلك يشاركونني هذا الشعور - أنا أشعر بالراحة في
المسجد حتى ولو كان الجو حاراً أو بارداً أشعر بهذا المنظر الذي أنا فيه سيسكب في
داخلي طمأنينة واستقراراً ، وإن رجلاً ، وإن امرأة ، وإن شاباً يعتاد المساجد بقلبه
بجسمه كما قال عليه وآله الصلاة والسلام فهذا دليل إيمان ، وأسأل الله أن يثبت فيه
هذا الإيمان إلى أن ينتقل إلى الدار الآخرة ، إلى أن يترك هذه الدنيا وهو مؤمن
إيماناً كاملاً تاماً إن شاء الله .
عودة يا أيها الشباب ، يا أيها الرجال ، يا أيها الأطفال ، يا أيها الطلاب ، يا
أيها المسؤولون : عودة إلى المسجد ، دعونا نتلاقى في المسجد ، أريد أن ألتقي
المسؤول في المسجد ، أريد أن أسأله وهو في المسجد ، ولا يمكن لهذا الذي أقول أن
يتحقق في أيام ولكن علينا أن نباشر ، علينا أن نغرس في نفوس أبنائنا بأن الراحة في
المسجد إذا قصدوا أو راموا مكاناً يستريحوا فيه ، المسجد للراحة ، لراحة القلب ،
لراحة النفس ، لراحة الروح ، المسجد للاستقرار ، المسجد للطمأنينة ، المسجد من أجل
أن تدخله لتقول لربك : يا رب ! دخلت بيتك ، فأنا ضيفك ، وحقٌ على المضيف أن يكرم
ضيفه . إذا دخلت المسجد فأنت ضيف الله ، وأنت في كنف الله ، وأنت في بيته المباشر
وأنت لديه بشكل مباشر ، كما أن الصلاة صلة مباشرة مع الله فمكان أداء الصلاة هو
المكان المباشر لله وهو بيت الله ، وهو المكان الذي يتجلى الله فيه كريماً رحيماً
عظيماً أكثر مما يتجلى في غيره ، لأنه أحب الأماكن إليه ، وهل يتجلى الله نفس
التجلي في مكان هو أحب الأمكنة إليه كمكان ليس هو بذاك المكان الذي يحبه .
أيها الإخوة : لندخل المساجد بنية غسل الأتعاب التي تصيبنا ، بنية غسل وإزالة
الهموم التي تركبنا وتعلونا ، إذا دخلت المسجد بنية إزالة الهموم زالت عنك لا سيما
إذا أخذت مكاناً في هذا المسجد وصليت ركعتين براحة وقلت حاجتَك التي تريدها لربك .
علموا شبابنا أن يلتجئوا إلى الله في بيت الله . إذا سألك ولدك أو أخبرك عن ملمّة
ألمت به فقل له : يا ولدي : اذهب إلى المسجد وصلِّ ركعتين وادع ربك دعاء الحاجة وقل
لربك : " اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه
بك إلى ربك في حاجتي لتقضى ، اللهم شفعه فيَّ بجاهه عندك " لو ربّينا أولادنا على
هذا فسيكون مسؤولون في المستقبل من هؤلاء الأولاد ، فإذا ما ألمت بهم مصيبة ، أو
إذا ما أرادوا طلباً من ربهم جاؤوا إلى المسجد كبقية الناس لأنهم ضيوف الله ، وهل
يستنكف الإنسان عن أن يكون ضيف الله المباشر في بيته المباشر ، في المسجد ، نريد أن
نلتقي في هذا الوطن هنا في المسجد ، لأنه مكان راحتنا ، لأنه موطن سعادتنا ، لأن
ملتقانا فيه على الله ، على غير نفع مادي يراد ، لأن التقائنا فيه التقاء الروح
بالروح ، التقاء الرضي بالرضي ، التقاء المطمئن بالمطمئن ﴿ الذين آمنوا وتطمئن
قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾
(الرعد
: 28)
.
يا شبابنا : أريدكم أن تكونوا في المسجد بشكل دائم ، ولا أعني أن تتركوا مدارسكم
وأعمالكم ، لا . ولكن ارتياد المسجد يعني كونكم فيه بشكل دائم ، لكن ارتياد المسجد
بشكل مكرر في كل يوم ولو نصف ساعة ، هذا سيعطيك صفة المرتاد والمتعاهد للمساجد ،
وبالتالي هذا ما أعنيه حينما أقول : عليكم أن تكونوا دائماً في المسجد .
على المسجد أن لا يغادر خَلَدنا ، على المسجد أن لا يغادر تفكيرنا وفسحةً نريد أن
نقضيها لنرتاح ، على المسجد أن يكون دائماً ملازماً للمكان الذي ننشده من أجل قضاء
وقت فيه نستمتعه بحلال ونقضيه بوجدانٍ صافٍ مع الفطرة . هكذا نريد للمسجد أن يكون .
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن تعلَّق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ،
أسأل الله أن يوفق شبابنا من أجل أن يكونوا مسجديِّين ، وأسأل الله أن يوفق
مسؤولينا من أجل أن يرتادوا المساجد ، وأسأل الله أن يجمعنا من المسجد وفي المسجد
لننطلق دعاة سلام نحمل رسالة المسجد التي هي رسالة رحمة ، ورسالة سلام ، ورسالة
أمان ، ورسالة اطمئنان ، رسالة المسجد رسالة إنسان ، رسالة المسجد رسالة عطاء ،
رسالة خير لكل الإنسان حيثما كان الإنسان .
أيها الإخوة : من عاش منكم في المساجد أو ارتادها أدرك هذا الذي نقوله ، ومن لم يكن
كذلك فليجرِّب ، فسيدرك هذا الذي قلناه . اللهم اجعلنا من أهل المساجد نصلي ونصوم ،
نعبدك يا ربنا ، نكون ضيوفك في بيوتك ، اللهم اجعلنا من الذي إذا دخلوا المساجد
اجتمعوا مع إخوانهم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم حتى تحفُّنا الملائكة
وتغشانا الرحمة وتذكرنا فيمن تذكره عندك بالغفران والرحمة والرضوان ، نعم من يسأل
أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات