آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
بين معالم المجتمع المدني والمديني

بين معالم المجتمع المدني والمديني

تاريخ الإضافة: 2003/08/15 | عدد المشاهدات: 4375

أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :
لعلكم تسمعون ، وأظن أن لعل هنا للتأكيد ، تسمعون بما يسمى بالمجتمع المَدَني ، وتسمعون كثيراً من الناس يطالبون به ، بل إن هنالك جماعات كثيرة أضحت تنسب إلى ما يسمى بالمجتمع المدني ، وتطالب هذه الجماعات بالمجتمع المدني .
ما الذي تعنيه – أيها الإخوة - هذه الكلمة وهذا المصطلح ؟
قبل أن أتحدث عما تعنيه هذه الكلمة لا بد من أن أوجه عناية هؤلاء الذين يتحدثون عن المجتمع المدني ويطالبون به ، لا بد من أن أوجه عنايتهم إلى أن هذا الذي يطالبون به في خيره في الجانب الخيِّر منه قائم وحاصل فيما يسمى بالمجتمع المديني ، وهنالك فرق بين المجتمع المدني الذي ينادي به هؤلاء وبين المجتمع المديني . المجتمع المديني هو مجتمع المدينة المنورة الذي أقام أركانه وأسس قواعده وأعطى أبعاده سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما المجتمع المدني فهو مفرز من مفرزات الغرب ، وحينما أقول مفرز من مفرزات الغرب فلا يعني أنني أَسِمُه بالمعارضة لديننا ، ولا يعني أنني أَصِفه بصفة التضاد مع ديننا ، لكنني أقول لهؤلاء الذين يطالبون بالمجتمع المدني هنا في بلادنا : علينا وعليكم أن نرجع لاستمداد معالم المجتمع المدني الذي تطالبون به ، علينا أن نعود وأن نستمد قواعد هذا المجتمع المدني من قواعد المجتمع المديني الذي أسسه النبي عليه وآله الصلاة والسلام . هؤلاء الذين يطالبون بالمجتمع المدني يتحدثون عن مجتمع يتحدثون عن مجتمع وهذا ما تعنيه كلمة المجتمع المدني ، يتحدثون عن الحرية ويطالبون بها ، يتحدثون عن الديمقراطية ويطالبون بها ، يتحدثون عن المؤسساتية ويطالبون بها ، وهذه أمور جيدة ، ونحن نريدها ونحرص عليها ، لكننا لماذا لا نتحول طالبين وسائلين ومستنبطين ومستمدين من المجتمع المديني الذي يحوي خير هذه الصفات المطالب بها من قبل المجتمع المدني وزيادة .
المجتمع المديني الذي أقام أركانه والذي وضع قواعده والذي أسسه النبي المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام وكان لهذا المجتمع المديني دستور وضعه النبي عليه وآله الصلاة والسلام بوحي من الله وهذا الدستور يعرف بدستور المدينة وأهل المدينة ، وهذا الدستور - ولا أريد أن أتحدث عنه بعاطفة - لكني أقول لهؤلاء الذي ينادون بالمجتمع المدني : اقرؤوا دستور المجتمع المديني فستجدون فيه ما تصبون إليه وزيادة ، وهذه الزيادة أساس وأصل في تكوين المجتمع المطلوب المنشود. وتعالوا الآن أحدثكم عن ملامح المجتمع المديني وعلى طلاب المجتمع المدني أن يحاورونا وأن يقفوا معنا بنية الإفادة منا وسنقف معهم بنية الإفادة منهم .
معالم المجتمع المديني الذي أسسه النبي عليه وآله الصلاة والسلام هي :
أولاً : التعاون المثمر البنَّاء : أول معلم من معالم المجتمع المديني والذي نريد لمجتمعاتنا العربية والإسلامية ، والذي نريد من حكوماتنا العربية والإسلامية أن تتقلد خطاه ، وأن تأخذ عنه ، وأن تتطلع إليه تطلع الإنسان الذي يريد الخير والتطبيق الفعلي في مجتمعه . المعلم الأول للمجتمع المديني التعاون المثمر البناء ، والله عز وجل يقول وأنتم عالِمون بهذا ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )
المائدة : 2 ويقول عليه وآله الصلاة والسلام كما يروي أبو داود وفي رواية للبخاري واللفظ لأبي داود الذي سأذكره : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " والمادة الأولى من دستور المدينة الذي وضعه النبي عليه وآله الصلاة والسلام تقول : " وأن المسلمين مَعَ مَنْ معهم أمة واحدة على من عَدَاهم " واحدة ، متعاونة ، متضامنة ، متناصرة ، متباذلة ، متعايشة ، هذا هو المعلم الأول لمجتمع المدينة أو للمجتمع المديني .
أما المعلم الثاني فالحرية : الحرية ، وننادي الجميع بضرورة الحرية ، والحرية التي نعنيها هي : حرية اعتقادية ، وحرية في الرأي وحرية في العمل ، وحرية في السياسة . أما الحرية الاعتقادية فالله عز وجل قال : ( لا إكراه في الدين )
البقرة : 256 والنبي عليه وآله الصلاة والسلام قال وخاطب المسلمين كما جاء في مسند الإمام أحمد : " اتركوهم – أي غير المسلمين – اتركوهم وما يدينون " الحرية الاعتقادية ، وقال عليه وآله الصلاة والسلام يوصي أصحابه كما جاء في الطبراني فيما يخص أهل الأديان الأخرى : " ولا يُقتَل لهم خنزير ولا تُرَاق لهم خمر " حرية اعتقادية . وأما الحرية التعبيرية أو حرية التعبير فالنبي عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في صحيح الإمام مسلم كان يقف ويقول : " أيها الناس سلوني ما شئتم " اسألوني ، تحدثوا بما تريدون ، وليس هنالك من إشارة تَحفُّظ أو ما يسمى اليوم بالفيتو على أي كلام تقولونه ، حرية التعبير والرأي مُحتَرمة بلا شك وقائمة والرسول عليه وآله الصلاة والسلام يقول في حديثٍ يرويه الترمذي وابن حِبَّان : " إذا حكم الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران " أو كما قال عليه وآله الصلاة والسلام ، قل أيها الحاكم ، وليس المقصود بالحاكم هنا الحاكمَ العام فقط ، وإنما المقصود بالحاكم الحاكم الخاص والعام ، فأنت أيها الأب حاكم ، و القاضي حكم ، والمدرس حاكم ، والمدير حاكم ، وإمام الجامع حاكم ، وهكذا دواليك . أما الحرية السياسية فهي في المجتمع المديني مصونة ، ولا أَدَلَّ على هذا من خطبة الصديق رضي الله عنه يوم تولى زمام الخلافة وقف فقال : " أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخير كم إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة والكذب خيانة ، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم " الحرية السياسية .
الملمح الثالث : كرامة المواطن وحقوقه : المواطن مُكَرَّم ، المواطن برئ حتى تثبت التهمة وليس العكس ، ليس المواطن متهماً حتى تثبت براءته ، المواطن بريء ، المواطن مُكَرَّم ، المواطن محفوظ ومصون ، وحقوقه محفوظة ومصونة ، حق التعلم للجميع من دون استثناء : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " وعلى القائمين أن يحققوا فرص التعلم بالتساوي لكل الناس ، وأن لا تكون هنالك اعتبارات غير اعتبارات المواطنة في إتاحة فرص التعلم للناس ، حق التعلم من حقوق المواطن . حق العمل : على الجميع أن يجدوا عملاً في وطنهم ، وأن يمارسوا العمل الذي يتكسبون به والدولة ملزمة بتأمين العمل وتأمين فرص التعلم للجميع . هذا ملمح من ملامح المجتمع المديني : كرامة الفرد ، كرامة المواطن ( ولقد كرمنا بني آدم )
الإسراء : 70 الإنسان مهما كان مُكَرَّم ، ولا أَدَلَّ على مثل هذا المعنى من قصة وردت في عهد النبي عليه وآله الصلاة والسلام يرويها الإمام مسلم : مرت جنازة أمام النبي عليه وآله الصلاة والسلام فقام احتراماً لهذا الإنسان الثاوي في ذاك الصندوق ، قام النبي احتراماً ، فقال بعض الذين كانوا حول النبي : يا رسول الله : إنه يهودي ! فأجابهم عليه وآله الصلاة والسلام : " أَوَليست نفساً ؟! " وهل يخفى كونه يهودياً على النبي عليه وآله الصلاة والسلام ! لكن النبي يريد أن يَعلَّم الناس أن الإنسان مكرم ، وأن الإنسان – لا أقول غير محتقر – لكني أقول أن الإنسان مكرم ، المواطنة حصانة ، الملمح الثالث إذاً : كرامة الفرد وحقوقه التي يجب أن تصان : " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه " وقلت لكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " لا يُقتَل لهم – أي لغير المسلمين ، لأهل الكتاب – لا يقتل لهم خنزير ولا تراق لهم خمر " .
الملمح الرابع للمجتمع المديني : العدل . وكلنا حتى وإن ظَلَمنا تواقون للعدل يبسط رداءه على كل مستويات مجتمعنا وفي كل مجالاته ، نريد للعدل أن يتجسد ، نريد للعدل أن يشخص ، نريد للعدل أن يكون في وعي المسؤول كل المسؤول ، في وعي الأب ، وفي وعي الزوج ، وفي وعي الزوجة ، وفي وعي القاضي ، وفي وعي الطبيب ، وفي وعي المحامي ، وفي وعي الضابط ، في وعي الجميع ، العدل : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا )
المائدة : 8 اعدلوا ، اعدلوا ، اعدلوا ، يقول عليه وآله الصلاة والسلام كما جاء في سنن الترمذي : " إن الله مع القاضي ما لم يجر" وكلنا بشكل أو بآخر بنسبة أو بأخرى كلنا قضاة : " إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلى الله عنه ، ولزمه الشيطان " وفي رواية : " والتزمه الشيطان " تخلى الله عنه والتزمه الشيطان .
أيها الناس ، أيها المواطنون في هذا البلد : نحن حريصون على مجتمع مديني .
الملمح الأخير للمجتمع المديني وهذا ما لا يعتبره أرباب المجتمع المدني ، الملمح الأخير : العبودية لله : ومن قصر في عبوديته لله لم تستقم أموره مع الناس . إذا كنت مقصراً مع المنعم المطلق فلم تعبده ، فكيف تكون غير مقصر مع الناس ؟! العبودية لله ، نريد من إخواننا هؤلاء الذين يدعون للمجتمع المدني أن لا ينسوا الملمح الأخير الأساس الركن وهو العبودية لله : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم )
البقرة : 21 وهذه ( الذي خلقكم ) علة الأمر بالعبودية ، لماذا نعبد ربنا ؟ الله قال : ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات ) البقرة : 21-22 اعبدوا ربكم ، توجهوا بالعبودية لله ، فالمجتمع الذي لا يقوم من جملة ما يقوم عليه لا يقوم على العبودية مجتمع مشلول ، مشلول ، لا يتكامل عطاؤه ، ولا ينتج بما يريد أن ينتج ولا يحقق المراد المطلوب من الإنسان ، العبودية لله . علينا أن نُظهِر من خلال أفعالنا وأقوالنا وسلوكنا عبوديتنا لربنا ، ينبغي أن تكون العبودية واضحة جلية في كل مكان يتجسد على أرضنا في وطننا ، ينبغي أن تُلحَظ العبودية في مناشطنا الاقتصادية ، وفي مناشطنا الصناعية ، وفي مناشطنا الزراعية ، وفي مناشطنا الترفيهية ، يجب أن لا تغيب العبودية لله عن كل هذه المجالات ، وإذا غابت العبودية عن مجال من المجالات شُلَّ هذا المجال وشل هذا النشاط ، لأن الله عز وجل دعانا بقول صريح صحيح ، دعانا في كل الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، دعانا عبر كل كتب الكون التي تُسَطِّر إعجازاً في هذا الكون ، الله دعانا عبر العقل والنقل إلى أن نعبده ، والعبادة صلاة وصيام وزكاة ، ولكن الأهم من كل ذلك نية إرضاء في كل عمل نقوم به في متجرك ، في مصنعك ، في قوس قضائك ، في غرفة حكمك ، ينبغي أن تكون نيتك لله ، وأن تسعى من أجل أن لا يخالف عملك أينما كان تعاليم الله ، أن لا تخالف تعاليم الله في كل أعمالك .
إخوتي : هذه ملامح المجتمع المديني ، وآمل أن نتعاون جميعاً في هذا البلد الذي يمتلك الخيرات ، والذي يمتلك الثروات ، والذي يمتلك القدرات ، أرجو أن نتعاون على إظهار وتجسيد هذه الملامح ، فإننا إن فعلنا ذلك أرضينا ربنا وقدمنا للبشرية أنموذجاً طيباً في مضمار الحياة المتتابعة الاجتماعية وغير الاجتماعية ، ورضي الله عن كل أولئك الذين يسعون لبناء الإنسان ، وأذكر في نهاية كلامي قولة لسيدنا الإمام علي كرم الله وجهه حينما خاطب الناس ، قال لهم : " أيها الناس : بالعدل تسودون ، وبالرحمة تدخلون جنة ربكم ، وبالإنصاف من أنفسكم تحترمون " يحترمكم الآخرون ، أنصف الناس من نفسك ، اللهم إنا نسألك أن توفقنا من أجل أن نكون على مستوى المجتمع المديني ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق