أما بعد ، أيها
الإخوة المؤمنون :
قلت عن رمضان في يوم من الأيام ، عن هذا الشهر الفضيل المبارك : إنه شهر الحرية ،
وهذه الكلمة ( الحرية ) نسمعها كثيراً في الميدان السياسي وفي الميدان الاقتصادي
وفي الميدان الاجتماعي ، ولكن ماذا تعني هذه الكلمة ( الحرية ) ولماذا كان رمضان
شهر الحرية ؟ الحرية أيها الإخوة الصائمون القائمون إن شاء الله الحرية هي قدرة على
الاختيار بين أمرين ممكنين ، وإذا ما كنت قادراً على الاختيار بين أمرين ممكنين
فأنت حر ، ولكن ما تختار ؟ ما الذي ستختاره حتى تكون حريتك إيجابية ؟ إذا كنت أمام
أمرين أحدهما لا خير فيه ، والثاني فيه خير ، فعندما تختار الذي فيه الخير إذاً
فأنت حر إيجابي ، وعندما تختار الأمر الذي لا خير فيه فأنت حر سلبي . مَن الذي
يرشدني إلى أن هذا الأمر فيه خير ، وإلى أن ذاك الأمر ليس فيه خير ؟ الله عز وجل هو
الذي يرشدني إلى ذلك ، لأن الله أعلم بما يصلحني مني بما يصلحني ، فالله عز وجل قال
في محكم آياته الكريمة : ﴿ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ﴾
الشمس : 8 - 9
ألهمها فعل الخير ، فعل الفجور
، وفعل التقوى ﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾
الشمس : 9 - 10
قد أفلح من زكاها ، من اختار الأمر الخيِّر الذي قال الله عنه إنه خيِّر ، وقد خاب
من دساها من اختار الأمر الشرير الذي قال الله عنه إنه شرير ، ﴿ قد أفلح من زكاها
وقد خاب من دساها كذبت ثمود بطغواها ﴾
الشمس : 9 - 11
ثمود كذبت ، اختارت الأمر الشرير ﴿ كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم
رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها ﴾
الشمس : 11 - 14
قال لهم رسول الله لا تقتلوا الناقة واختاروا عدم قتلها ، لكنهم كانوا أحراراً ،
إلا أن حريتهم كانت سلبية ، نحن في رمضان في شهر الحرية ، كيف ذلك ؟ أنت يا أخي
أمام أمرين ممكنين ، فإما أن تختار الصوم المفروض من الله عز وجل ، وإما أن تختار
الفطر المرفوض من الله عز وجل ، فأنت بين صوم مفروض ، وفرضه رحمة ، وفطر مرفوض من
الله عز وجل ، فإذا ما اخترت الصوم المفروض وهو الأنفع ، وهو الخير ، فأنت حر
إيجابي ، وإذا ما اخترت الفطر المرفوض وأفطرت في رمضان فقد أصبحت حراً ، لكنك حر
سلبي ، ويتتابع الأمر ، وجرب نفسك في كل الأمور هل أنت حر إيجابي أم حر سلبي ، إما
أن تعبد الله وإما أن تشرك معه غيره ، أنت تختار بين أمرين وأنت قادر على أن تختار
بين أمرين ، إما أن تعبد الله وإما أن تشرك معه غيره ، أو أن تعبد غيره ، أو أن
تتوجه إلى غيره ، ولكن ستكون حراً إيجابياً إذا اخترت عبودية الله ، وستكون حراً
سلبياًَ إذا اخترت عبودية غيره ، حينما تختار عبودية الله فأنت تستجيب للفطرة ،
للأنفع ، للأصلح ، الله عز وجل قال ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين
من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء
ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ﴾
البقرة : 21 - 22
اعبدوا هذا الإله ، أما إذا عبدتم غيره فمن الذي ستعبدون ﴿ إن الذين تدعون من دون
الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف
الطالب والمطلوب ﴾ الحج
: 73 إن اخترت عبودية
الله فأنت حر إيجابي ، وإن اخترت عبودية غيره فأنت حر سلبي ، وإذا أطلقنا الحرية من
دون سلبية ولا إيجابية انطلقت إلى الحرية الإيجابية ، انصرفت إلى الحرية الإيجابية
، ويتتابع الأمر ، فإما أن تختار كتاب الله منهجاً ودستوراً ، وإما أن تختار منهجاً
بشرياً وكتاباً آتياً من غير الله ، إن اخترت كتاب الله منهجاً فلنعم ما اخترت ،
ومن أولى من الله بعباده ؟ حينما تختار كتاب الله منهجاً فأنت حر إيجابي لأن هذا
الكتاب يهدي للتي هي أقوم ، ولأن هذا الكتاب من الله العظيم الكريم ، الذي يعلم
السر وأخفى ويعلم ما يصلحنا وما لا يصلحنا ، فإن اخترت غيره فأنت حر سلبي ، أو
بالأحرى على ما ذكرنا لست بحر ، لأن الحرية إذا أطلقت انصرفت إلى الحرية الإيجابية
، إن اخترت غيره من الكتب الآتية من البشر فيا بؤسك ويا ويحك ويا ويلك ، لقد فضلتَ
كتاباً آتياً من البشر على كتاب آتٍ من الله ، لقد فضلت كتاب المحدود على كتاب
المطلق ، لقد فضلت كتاب الجاهل الذات على العليم الذات ، لقد فضلت كتاباً لا يحيط
بك علماً صاحبه على كتاب يحيط بك علماً صاحبه ، ولذلك اختر كتاب الله عز وجل منهجاً
ودستوراً ، وأنا أقول هذا الكلام لا أخاطب المسلمين فحسب ، لكن أخاطب العالم كله ،
أخاطب المسلمين وغير المسلمين لأقول لهم : إن العقل والواقع أثبتا أن القرآن كتاب ،
منهاج ، دستور للإنسان يصلح له ما دامت الحياة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ،
إلى يوم القيامة . أتوجه لأؤكد على ما قلته الأسبوع الفائت ، أتوجه إلى المسؤولين
في بلادنا لأقول لهم : عمِّقوا القرآن وصلة القرآن بشعبنا ، عمِّقوا القرآن ،
وعمقوا الترابط بين القرآن وبين الثقافة ، بين القرآن وبين الإعلام ، بين القرآن
وبين العلم ، بين القرآن وبين الحياة ، بين القرآن وبين العدل ، بين القرآن وبين
التربية ، عمقوا الصلة فإننا - ورب الكعبة ، وما قسمي هذا بسهل - إننا إذ ندعو إلى
ذلك فإننا ندعو إلى حرية . ويتتابع الأمر ، فأنت أيها الإنسان إما أن تختار الطاعات
وإما أن تختار المعاصي ، فإن اخترت الطاعات فالطاعات نافعة لك ، فأنت حر إيجابي ،
وإن اخترت المعاصي والآثام فهي شر لك وأنت حر سلبي ، أو لست بحرّ .
قرأت عبارة للإمام سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه يقول : " ما أصعَبَ -
والكلمة جدُّ رائعة - ما أصعب على من استعبدته شهواته أن يكون فاضلاً " أن يكون ذا
فضل ، إما أن تختار المعاصي وإما أن تختار الطاعات ، وأنا أنادي شبابنا في الجامعة
، شبابنا في المدرسة ، شبابنا في الشارع ، أنادي نساءنا ، أنادي فتياتنا ، أنادي
الجميع لأقول للجميع : اختاروا الطاعات ، ففي اختيار الطاعات مصلحة لكم ، لبلدكم ،
لبيوتكم ، لفضلكم ، لفضيلتكم ، لمجتمعاتكم ، لدنياكم ، لأخراكم ، وإن اخترتم
المعاصي - ولا أريد لشبابنا أن يكون عبداً لشهواته - " ما أصعب على من استعبدته
شهواته أن يكون فاضلاً " لا أريد لشبابنا ولا لفتياتنا أن يكونوا ماجنين ، وأن
يكنَّ ماجنات ، أو أن يكنَّ خليعات ، أو أن يكونوا متبذلين ، أو أن يكنَّ متبذلات ،
لا أريد لشبابنا هذا . إني أريد لهم حرية إيجابية ولا أريد لهم استرقاقاً أو
رِقَّاً لعبودية ، لشهوات ونزوات . اختر أيها الشاب ، اختر ما يعود عليك نفعه على
جسمك ، على روحك ، على حياتك ، في دنياك وفي أخراك . ويتتابع الأمر فنحن أمام أيضاً
اختيارين : إما أن نختار السلام ، واسمحوا لي أن أقول هذا لأن الزمن الذي نعيش فيه
يتطلب منا ذلك ، إما أن تختار السلام ، السلام القائم على الظلم ، السلام القائم
على العدوان ، وهذا ما ليس فيه نفع لنا على الإطلاق ، وإما أن نختار المقاومة ،
وإننا إذ نقول المقاومة لا نريدها لذاتها وإنما نختار المقاومة من أجل أن نصل من
خلالها إلى سلام ، فنحن دعاة سلام ، من أجل أن نصل من خلالها إلى سلام قائم على
العدل ، قائم على الحق ، قائم على الصدق ، قائم على رد المعتدي ، قائم على دحر
الغاشم ، قائم على استرجاع الحقوق إلى أصحابها ، قائم على رد الحقوق إلى أنصبائها ،
إلى أصحابها ، نحن حينما نختار المقاومة لا نختارها لأننا نحب المقاومة أو الحرب ،
لا والله ما أحد منا يحب الحرب ، وما كان رسول الله يحب الحرب ، وإنها ليوم كريهة ،
والحرب تسمى بالكريهة فهي مكروهة ، لا نريد أن نزرع في نفوس شبابنا محبة الحرب ، أو
محبة المعركة ، فالحرب والمعركة أمران طارئان لكننا حينما نحتار ، وأؤكد على هذا -
حينما نختار المقاومة فمن أجل الوصول إلى السلام ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا منة ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا
الله ﴾ الحج : 39
نختار المقاومة طريقاً إلى السلام العادل ، وعدل السلام يعرفه الناس العقلاء كافة ،
السلام العادل ليس على المقياس الصهيوني ، والسلام العادل ليس على مقياس الإدارة
الأمريكية ، والسلام العادل ليس على مقياسنا حتى ، السلام العادل على مقياس الحقيقة
والحق ، على مقياس الدراسة والبحث ، نحن ندرس ، ونحن نبحث ، وما يوصلنا إليه البحث
الجاد والدراسة الجادة فنحن معها ، وسلامنا قائم على عدل تنتجه الدراسة والبحث
والتمحيص ، وأظن أن الدراسة الجادة والبحث والتمحيص أنتجت أن السلام العادل يعني أن
يرحل أولئك الطغاة ، أن يرحل أولئك البغاة ، أن يرحل أولئك الآثمون من أرض فلسطين ،
هذا هو السلام العادل الذي نسعى إليه ونريده ولا نبغي - لا ورب الكعبة - لا نبغي
قتالاً ولا نحب القتال ﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾
البقرة : 216
وإقرار من الشرع بأن القتال أمر مكروه ، والحرب أمر مكروه أيضاً ، ولذلك نؤكد على
ما قلناه أيضاً ، يا أمتي : رمضان شهر القرآن ، وعلى الصائم ، أو بالأحرى رمضان شهر
الله ، شهر العبودية لله ، على الصائم أن يختار عبودية الله ، رمضان شهر القرآن
وعلى الإنسان الصائم أن يختار القرآن ، رمضان شهر الطاعات وعلى الإنسان الصائم أن
يختار الطاعات ، رمضان شهر الجهاد ، ففي رمضان كانت غزوة بدر ، وغزوة الفتح ، فعلى
الإنسان الصائم أن يختار الجهاد ، وأعلق وأؤكد على أننا لا نريد المقاومة لذاتها
ولا نحب المقاومة لذاتها ، ولكنها طريق مُمَحَّص وأكيد للوصول إلى السلام ، لا
تقولوا عنا بأننا لا نريد السلام ، ولا تسموا إسرائيل بأنها دولة تريد السلام ، نحن
الذين نريد السلام ، وإسرائيل لا تريد السلام ، وإسرائيل تعرض عن السلام ، وإسرائيل
تذبح السلام ، نحن الذين نريد السلام ، ولكن كما قلت نريد السلام القائم على الحق .
يا رب رمضان وفقنا من أجل أن نكون أحراراً إيجابيين ، نختار عبوديتك على عبودية
لغيرك ، نختار قرآنك على كتاب آتٍ من غيرك ، نختار طاعاتك على المعاصي والآثام ،
نختار السلام العادل الذي يحقق للإنسان وجوده ومبتغاه ، أنت يا رب مبتغانا ، نسألك
يا ربنا كما وفقتنا لاختيار ما ينفعنا في الدنيا أن تختارنا يوم القيامة لجنة أعدت
للمتقين ، أن تختارنا يا رب للورود على الحوض الشريف ، لدخول الجنة من باب الريان ،
يا رب العالمين ، نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ،
أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات