أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
لتكن البداية تهنئة للعالم الإسلامي
كله بمناسبة ذكرى ميلاد سيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونسأل الله
مع التهنئة أن يُثَبِّت المسلمين على دينهم تثبيتاً جميلاً ، ونسأل الله أيضاً
أن يُعلِيَ كلمة المسلمين عالية خفاقة ، وأن ينصرهم نصراً مؤزراً على أعدائهم
في كل مكان .
وبعد التهنئة : ما الذي تعنيه الاحتفالات بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ؟ لعل من معاني الاحتفال استدعاء القيم والفضائل التي جاء بها هذا النبي
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، نستدعي هذه القيم ونستحضرها في أذهاننا ، ومن
ثم نحاول أن نجعلها مطبقة بيننا ، منفذة من قبلنا ، ممتزجة بحياتنا ، قائمة
مشخصة لا نعدل عنها ، والقيم التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا
يمكن أن أَصِفها بالكثيرة فحسب ، ولكنها تامة كاملة ، ليس فيها نقص لا في عدد
القيم ولا في طبيعتها ونوعها ، ولا أريد أن أتحدث عن كل هاتيك القيم التي جاء
بها سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ولكنني سأتحدث عن قيمة جاء بها ، بل
كَانَها ، ألا وهي قيمة الرحمة . أوليس الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم : ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾
الأنبياء : 107
ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في حديث يرويه الدرامي : " إنما أنا رحمة مهاة " ألم يقل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أيضاً كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " إن الله لم يبعثني
لعاناً ، وإنما بعثت رحمة " لذلك قلت : لم يأتِ النبي بالرحمة بل كان الرحمة
ذاتَها وعينَها ونفسَها ، كان الرحمة كلها ، كان الرحمة يشخصها ويجسدها ، وبناء
على ما ذكرنا نقول : إن كل قيمة أخرى جاء بها النبي عليه وآله الصلاة والسلام
إنما نسجت بخيوط الرحمة ، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان عادلاً ، ولكن
العدالة والعدل كانا ممتزجين ومنسوجين بالرحمة ، فهو عادل رحيم ، كان عليه وآله
الصلاة والسلام بشيراً ، ولكن البشير تتبع بالرحمة فهو بشير رحيم ، كان نذيراً
، ولكنه نذير رحيم ، كان حكيماً ، ولكنه حكيم رحيم ، كان عطوفاً ، رؤوفاً ،
أميناً ، وكل هاتيك القيم انتُسِجيت بخيوط الرحمة ، ولذلك وصف بالرحمة بالمصدر
، بل كان الرحمة عينَها ونفسها وذاتها .
وإذا كان الاحتفال يعني استدعاء القيم ، وها نحن نخص بالذكر قيمة بالرحمة لأن
النبي عليه وآله الصلاة والسلام كان مشخصها ومجسدها وممثلها ومجليها ومحددها
وصاحبها ، فما أحرانا أن نتداعى في الاحتفال بمولد النبي عليه وآله الصلاة
والسلام إلى أن نكون رحماء ، وإلى أن نتحلى بالرحمة ، إلى أن يتحلى التاجر
بالرحمة ، وتحلي التاجر بالرحمة يعني احتفالاً حقاً بذكرى ميلاد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ، وما أحرى الحاكم أن يتحلى بالرحمة ، وإذا ما تحلى الحاكم
بالرحمة فقد احتفل بميلاد النبي ، وكذلك الطالب والمدرس والأب والأم ، والطبيب
والمحامي والقاضي والمفتش وكل أصناف وشرائح المجتمع ، نقول لهؤلاء جميعاً :
الرحمةَ الرحمة ، الرحمة في تجارتكم ، الرحمة في قضائكم ، الرحمة في طبكم ،
الرحمة في وعظكم ، الرحمة في أبوتكم ، الرحمة في أمومتكم ، الرحمة في بنوتكم ،
الرحمة في دراستكم وثقافتكم ، الرحمة في دخولكم الجامعات وفي كل ما تعملون ،
ولعل بعضنا يسأل – ويحق له أن يسأل – ماذا تعني كلمة الرحمة ؟ وما المراد من
الرحمة ؟ فتشت عن معنى كلمة الرحمة وإذ بي أصل في النهاية – وأنا أحب دائماً أن
أبحث عن المعاني المحددة حتى لا نعبئ المصطلحات بمعانٍ غير قابلة للحصر أو للحد
أو التعريف . بحثت عن المعنى القابع في حروف الرحمة فوجدت أن الرحمة تعني
العطاء النافع برفق ، وقرأت قوله تعالى : ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت
فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ آل
عمران : 159 وبحثت عن الفظاظة
والغلظة فوجدت أن الفظاظة عطاء غير نافع ، والغلظة تعني عنفاً أو تعني ضد الرفق
، ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ آل
عمران : 159 لأن الرحمة عطاء
نافع برفق ، إذا ما أعطيت برفق عطاء نافعاً فهذه هي الرحمة ولذلك ربنا عز وجل
قال : ﴿ الرحمن . علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان ﴾
الرحمن : 1- 4
ومن حيث كونه رحماناً خلقنا فحياتنا عطاء نافع ، والله حينما خلقنا خلقنا برفق
، أوليس الله قد قال ﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾
الحجر : 29
أوليس هذا عطاء نافعاً ، نافع برفق يعني رحمة .
أيها التاجر ، أيها الحاكم : إن كنت تحكم وتعطي بحكمك ما وكلت أن تعطيه وكان
العطاء نافعاً ، ولن يكون العطاء نافعاً إلا إذا كان موافقاً لشرع الله ، لأن
الله لا يريد منا أن نعطي السيء لبعضنا ، أيها المدرس إذا أعطيت درسك النافع
برفق فأنت رحيم ، أيها الطبيب إذا أعطيت طبك وعلاجك النافع المدروس برفق فأنت
رحيم وهكذا ، عندما نمتلك هذا المعنى ونطبقه في ميادين الحياة ندرك أن الرحمة
عطاء نافع برفق ، فإذا لم يكن العطاء نافعاً فهو فظاظة ، وإذا لم يكن هنالك
عطاء فهو فظاظة ، وإذا كان العطاء النافع برفق فهو غلظة ، والرحمة من طبيعتها
العموم ، ولذلك قلنا العطاء النافع للجميع ، أن لا تدخر العطاء ولا جزءاً منه ،
العطاء النافع برفق لكل الناس ، وهذا ما يقوله سيدنا المصطفى صلى الله عليه
وآله وسلم . رأيت حديثاً يرويه الدارمي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
: " لا تؤمنون – وفي رواية لن تؤمنوا – حتى تراحموا " فقال رجل : يا رسول الله
: كلنا رحيم . فقال : " ليست الرحمة برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها الرحمة العامة
" الرحمة عامة شاملة " الرحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من
في السماء " وهنالك روايتان " يرحمْكم من في السماء " إذا رحمتم ، وفي رواية
ثانية " يرحمُكم من في السماء " إن رحمتم الآخرين أو لم ترحموا ، لأن رحمة الله
مستمرة لكم سواء أرحمتم الآخرين أم لا " ارحموا من في الأرض يرحمُكم من في
السماء " رحمة الله دائمة معكم .
فلنفكر في مثل هذه الذكريات بالقيم ، وبقيمة الرحمة بشكل خاص ، هل أنت تعطي
نافعاً برفق ، أنت تحب أن توصف بالرحمة فهل أنت تعطي نافعاً برفق إذاً أنت رحيم
سواء أوصفك الناس بذلك أم لا ، أنت رحيم ما دمت تعطي نافعاً برفق ، فالرفق ما
وضع على شيء إلا زانه وما رفع من شيء إلا شانه ، نريد أن نعيش الرحمة ، نريد أن
نفكر في الرحمة ، نريد أن نحاسب أنفسنا في كل يوم هل كنا رحماء هذا اليوم من
خلال عطاء نافع برفق أم أن الرحمة ابتعدت عنا فلم تصبنا بوابها الطيب ، هل كنا
في دوائرنا رحماء ، هل كنا في عياداتنا رحماء ، هل كنا في مكاتبنا رحماء ، هل
كنا في ثكناتنا رحماء ، وأخاطب الثكنات ومن فيها بشكل خاص بضرورة الرحمة ، أريد
لجيشنا أن يتراحم فيما بينه ، أريد للضابط الكبير أن يكون رحيماً بمن هو أدنى
منه رتبة وهكذا ، وبشكل خاص فنحن أمة الرحمة إن تخلينا عنها فلن نرى الخير ما
دمنا لم نرى الإيمان ، أوليس النبي قد قال : " لن تؤمنوا حتى تراحموا " إذا لم
نتراحم فلن نرى الخير ولن نرى الإيمان ، والخير لا يأتي إلا من وراء الإيمان ،
فإذا ذهب الإيمان ذهب الخير كله .
إن النبي عليه وآله الصلاة والسلام الذي نتذكر اليوم ميلاده كان رحيماً
بالمؤمنين ، كان رحيماً بالجماد ، كان رحيماً بالحيوان ، كان رحيماً بالمشركين
، أوليس النبي قد قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " إنه يريد أن
يعطيهم الإيمان ، فالإيمان عطاء نافع برفق .
الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ، الصلاة والسلام عليك يا ابن عبد
الله ، الصلاة والسلام عليك يا أرحم الناس بالناس ، الصلاة والسلام عليك يا
خاتم رسل الله ، الصلاة والسلام عليك يا أيها المبعوث رحمة للناس ، الصلاة
والسلام عليك في يوم مولدك ، وفي يوم بعثك ، وفي يوم تشفع لنا فيه عند الله جلت
قدرته ، اللهم اجعله روحاً لذاتنا من جميع الوجوه يا عظيم ، نعم من يسأل أنت ،
ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات