آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
معالم تربيتنا في مواجهة العولمة/ جريدة تشرين

معالم تربيتنا في مواجهة العولمة/ جريدة تشرين

تاريخ الإضافة: 2007/02/03 | عدد المشاهدات: 3542

نشرت جريدة تشرين الصادرة بدمشق بتاريخ: 3/2/2007 وفي صفحة مدارات المقال التالي:

معالم تربيتنا في مواجهة العولمة

 العولمة المطروحة والمعلنة هي عولمة قيم الدولة الأمريكية في المجالات السياسية و الاقتصادية والثقافية. أو هي بعبارة أخرى أمركة العالم في المجالات الثلاثة المذكورة آنفاً بواسطة وفعل القوة والإكراه(1). وأمريكا ما كانت في الماضي لتعدّ نفسها لمثل هذا الدور لولا أنها جهدت في مسح آثار الدول الأوروبية على قسمات العالم الثالث لتُحلَّ محلها آثارها وتأثيراتها. وبمعنى آخر فأمريكا - وبدافع ردة الفعل على استعلاء أوروبا في الأرض حيناً من الدهر - تسعى إلى الاستعلاء الآن فهي مَنْ غَدَت الأكثر قوة وعتاداً وما عليها إلا أن ترث السمعة والسِّمة الاستعمارية قولاً وفعلاً حتى وإن لم تُعلَن وفاة المورِّث المغلوب على أمره، وبالرغم مما بدا منه وعليه من بعض علامات الاستمرار في الحياة كاستعصاء فرنسا على الكاوبوي الامريكي في مفاوضات ( الغات ) وبذل الجهد في استثناء مساحة الثقافة من أرض هيمنة العولمة (2).

وعلى كلٍّ: فالعولمة إذ تُرفَض فلأنها تحمل جينات خطر على الإنسانية، ويمكن أن يتفاقم الخطر فيؤدي إلى الدمار والإنهيار، لأن العولمة في النهاية (3):

1- تبغي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره.

2- تسعى العولمة إلى دمج العالم الثالث وحتى أوروبا في التقاليد والقيم الأمريكية، وإبادة الخصوصيات الثقافية والمعرفية والتقليدية وإبادتها، وهذا الدمج وسيلة قهر بالقوة واستغلال الحاجة المعاشية، ومن هنا عبر بعضهم عن العولمة بقوله: إنها لحظة تتويج النظام الرأسمالي العالمي كونياً الخارج من رحم الدولة الوطنية (4).

3- تغدق العولمة على الجسد ما سيفيض عن حاجته من الإشباع، غير أنها ستقتل في الوقت ذاته الروح، وستذهب بالمحتوى الأخلاقي والإنساني لسلوك الناس.

4- ثقافة العولمة ثقافة الصورة، وستتوسع هذه الثقافة في مُناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة ؛ والصورة إن هي إلا المادة في حدها الطاغي (5).

5- في العولمة يحل العنف الثقافي محل المثاقفة، فالأول يعني العدوان والإكراه، والمثاقفة تعني إصغاءً متبادلاً من سائر الثقافات بعضها إلى بعض.

ما ذكرناه آنفاً يدفعنا نحن الذين ندعى فريسة العولمة إلى اتخاذ موقف حيالها ولن يكون إلا أحد مسلكين:

فإما الإنكسار والاستسلام والانسجام الذليل والتبعية المقهورة التي تجعل منا مرشحين أذلاء لمواطنة أمريكية عن بعد برتبة (موالي) وكل ما نحلم به رضى السيد المتجلي في معونة مادية ليس منها قول معروف، أو في بسمة ماكرة نضطر لاحتسابها فرحاً بنا وعلينا، أو في تأكيد دعمه للقابعين منا على كراسي الحكم ليظلوا كذلك ما داموا على العهد اللعين محافظين (6)، وأما المواجهة الواعية عبر الفكر والكلمة، فلا نمتلك امتلاكاً جاداً سواهما، ولنا فيهما رصيد، وعندنا منهما مخزون، وليس ثمة من محدِّد أو مجلِّي لهذه المواجهة إلا التربية، فما معالمها في مواجهة هاتيك العولمة:

أولاً: الممانعة والتمرد، وزرع بذور ذلك في نفوس من نتوجَّه إليهم بالتربية، ففي البدء كانت الممانعة، وهي تعني لدينا تنمية وتقوية التمرد على السوء، وشدّ أزر عصيان الإنسان للطغيان، ولها تشكلات منوّعة وتجسيدات متعددة في تاريخ الإنسانية الجاهدة في تحقيق إنسانيتها، فهي على سبيل المثال- في تراثنا- كلمة حق عند سلطان جائر (7) وأعظم بها جهاداً إيجابياً للوصول إلى خير يعم الانسان، وهي أيضاً في تجليات أخرى رفض للمهادنة والمساومة على المبادىء الجادة فـ: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) كما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال هذا رداً على مساومة الطغاة له حين راودوه عن مبدئه وعرضوا المال والملك والنساء، فلن ننفصم عن جذورنا ولن نؤتى من تحت أرجلنا، ولن تضيع هويتنا، وسنبقى نجهد في اللقاء مع الآخر على أرض حوار إن هو استجاب وإن لم يستجب فاختار سبيلاً أخرى ضارة بالإنسان فقد ظلم والظلم رذيلة الرذائل، وليس الظالم بمنصور أبداً وإن غَلب، وسيُبلى الظالم - لا ريب -  بأظلم، وما يوم البرجين عنا ببعيد.

ثانياً: تعميق القراءة وثقافة المكتوب، ولتتناول القراءة مكوِّنات الهوية وعناصرها، ولعل أهم مكونٍ لها التاريخ، تاريخ المبدأ وسيرورته، وإنتاجاته، وأعني بالمبدأ الدين الذي يرتبط بالسماء مصدراً وبالأرض منزلاً، الدين الذي ينفتح على الإنسان الكوني رحمة ورعاية وحماية، وما أظن أن العولمة تقابل بغير الدين، فكلاهما يودان الانفتاح على العلم كلّه، بيد أن أحدهما وهو الدين يمعير الناس على أساس من قوة الانتماء الجاد العملي والقولي إليه بغض النظر عن العرق واللون، في حين أن العولمة تعمّم أو تسعى إلى تعميم قيم منطقة محدودة من خلال إنسانها الذي امتلأ إهابه زهواً وإعجاباً بنفسه، وقوته المادية وعتاده وثرواته ؛ لقد ضعف ارتباطنا بجذورنا لجهلنا بها، فسهل على أي ريحٍ خلعنا عنها وزرعنا في أي تربة أخرى غريبة عنا وعن الإنسانية.

وقد آن الأوان إلى الدعوة إلى مقاطعة ثقافة الصورة المستوردة الضارة لأننا لا نستطيع منافستها، فلنؤكد على ثقافة المكتوب عبر مسابقات ومنافسات وتكريمات وندوات، وتخصيص جزء بسيط مما ننفقه على الصورة التابعة الذليلة لنجعله في خدمة الكلمة الواعية البانية، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ن. والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون﴾ (9) فإن أعرضتم عن القلم فلن يدافع الحق عنكم، وستظل اتهامات غيركم لكم لا تنفك عنكم مهما كانت سيئة، وسنبقى مرشحين لها وذلك بما كسبت أيدينا، أو بالأحرى بما جنته عيوننا وقد أهملنا سواها وعطلناها.

ثالثاً: الكف عن الإمعان في إشباع الجسد، وتحويل الجهود إلى تغذية الأرواح الجائعة والعطشى، فإلى متى وكأننا لا نملك إلا الجسم والجسد، وسرّ الروح المستودع فينا ننكره. لقد اشتد أنين الروح وهي ترزح تحت وطأة المادة القاتلة الطاغية ولا مغيث، فهيا إلى إنقاذها وإشباعها والبحث عن مصدر نظيف ومنبع طيّب لريّها، فهل في تلافيف العولمة ما يلبي تطلعاتها ؟! إني أشك وفي الأمر جد مرتاب.

والشك والريب جاءاني بعد اطلاع على ملف العولمة، فهل ثمة من يأتيني منه وعنه بخبر يخالف ؟!

وإذ نبحث عن إشباع الروح فلن نجد غذاء أولى من الصدق والرحمة لها، وها نحن أولاء ننادي ولاة أمر التربية ليبثوهما وليحكوا حكاياتهما التاريخية وليبينوا مكانتهما الرفيعة في رقعة الأخلاق ومساحة السلوك، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان الرحمةَ عينها، وقد حُصِر بها فلم يكن إلاها، كما عبر القرآن الكريم حين قال: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (10).

وها هو من جهته يدعو إلى تمثّلها والتحلي بها فيقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (11).

وكذلك الصدق الذي ما انفك المصلحون في حياتهم عنه لحظة وما كانوا كذلك إلا به، فهو أسُّ الفضائل ونظام القيم وجامع الخير، والروح لولاه مُرهقة متعبة بل ربما كانت مفرّغة، وهي إلى الصورة والشكل الخامل أقرب.

وفي النهاية هنا: أعطني رحمة وصدقاً وخذ إنساناً عالي الهمة، مصلحاً، راقياً ومرقياً تشع منه شمس الحياة باستمرار، كما قال الزعيم الهندي المهاتما غاندي (12).

رابعاً: تأصيل التعارف غاية إنسانية جادة، وتوجيه التقانة الاتصالية لتكون في خدمة ذلك، وبكلمة أخرى: علينا التنادي إلى تسجيل غايةٍ نبيلة لهذه الثورة العارمة القوية للمعلوماتية، وليس ثمة غاية أنسب للإنسان من التعارف، قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾ (13).

والتعارف يعني معرفة الناس بعضهم بعضاً معرفة موثقة عارية عن الوهم والتخمين، والتعارف جذر العلاقات الإنسانية الواعية، وهو بلا شك طريق الاعتراف بالآخر، ولا اعتراف من غير تعارف.

وليس للتعارف حدود جغرافية ولا سدود أيديولوجية، بل كل الناس على اختلاف أراضيهم وألوانهم وأديانهم مدعوون إليه، من خلال ترسيم وترسيخ معالم ثقافة تدعى ثقافة التعارف. فلنضمِّن ذلك مناهجنا وكتبنا ومؤتمراتنا، وإلا فالإنسان عدو ما جهل ومَنْ جهل، و: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ (14).

وثقافة التعارف تنتمي إليها كل الثقافات البناءة الإيجابية من حوار ولقاء وتعايش وسلام وأمان وإنصاف وعدل واستقرار.

أخيراً: نطلب من دعاة العولمة ومروِّجيها متابعة نشاطهم فيما يخص عولمتهم، لكننا نلفت عنايتهم إلى ضرورة اعتبارنا وعدم إهمالنا، لأننا نظراؤهم في الإنسانية حتى وإن لم نكن شركاء لهم في مكونات عولمتهم المادية. وليعلموا أن عولمة تقهر إنساناً تعني علواً في الأرض بغير حق. وأن عالمية ترحم إنساناً وترعى إنساناً تعني مستقبلاً مرجواً ومنشوداً، وشر الناس من أكرمه الناس وقدّره الناس واحترمه الناس اتقاء شره، فانظروا حولكم وافحصوا تقدير غيركم لكم واحترامه لكم، وإن صدقتم الفحص والتمحيص فستعرفون وتدركون، وإذا عرفتم فلا تجحدوا وتسدروا، بل توبوا واعترفوا ﴿إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى﴾ (15).

الدكتور محمود عكام

الهوامش:

1-2-3-4-5: " العرب والعولمة " بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. السيد ياسين، عزمي بشارة، أنطوان زحلان، محمد عابد الجابري، نبيل علي، عبد الإله بلقزيز، جلال أمين، إسماعيل صبري، عبد الله بول سالم، محمد الأطرش – ط ثانية 1990.

6- رَ: نهابة التاريه والإنسان الأخير: فرانسيس فوكوياما ص: 290، بحث أحرار وغير متساوين، مركز الإنماء القومي، ترجمة: فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايبي بإشراف مطاع الصفدي.

7- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي: رَ: كشف الخفا، تحقيق أحمد القلاش، مكتبة التراث الإسلامي، حلب.

8- رَ: السيرة النبوية، نور اليقين، محمد الخضري، دار دانية، دمشق، بيروت: 1990.

9- القلم: 1- 3

10 - الأنبياء: 107

11- رواه البخاري، رَ: صحيح البخارب، باب الرحمة.

12 - رَ: لمحات من ترياخ العالم، جواهر لال نهرو، ص 117، المكتبة العصرية، بيروت: 1960.

13- الحجرات: 13

14- الحجرات: 6

15- طه: 73

التعليقات

شاركنا بتعليق