العددان 131 و 132 كانون الأول 1996
يقودنا المفكر الإسلامي
فضيلة الدكتور الشيخ محمود عكام في هذا الحوار إلى أعماق الواقع الإسلامي
والعربي الراهن ، وإلى الخلافات الإسلامية الغربية ، ثم الإسلامية
الإسلامية ؛ مفسراً مواضع التقصير، ومقدماً أسباب المعالجة .
حوار مثير ، وآراء أكثر إثارة ، يقدمها المفكر الدكتور الشيخ محمود عكام ،
الداعية الإسلامي السوري المعروف ، والأستاذ بكلية الحقوق بحلب ، تستحق
الوقوف عندها بإمعان ، آراء قد تكون مصدر جدل ونقاش كبيرين ، فلنتابع ماذا
يقول .
المستقلة : كيف يحدد الدكتور عكام المشهد الإسلامي المعاصر؟
د. عكام : توصيف الإسلام المعاصر شيء يحتاج إلى شرح طويل، وإذا
أردتُ تلخيص ذلك، فيمكن تحديد هذا المشهد ضمن بابين: الإيجابيات و
السلبيات. أما سلبياته :
- فهي أن الإسلام مطروح من غير أن يكون هناك اندفاع، أو تهيؤ، أو إرادة
جادة من أجل التطبيق، و لا يطرح مدعوماً بالتطبيق . وهذا ما يشكل نفوراً
لدى كثير من الناس، إذ أن الناس اليوم يريدون المبدأ القابل للتطبيق،
والمبدأ الذي تتحول مصطلحاته إلى وقائع، وقد سمعوا الكثير من المصطلحات
البراقة، لكنهم عزفوا عنها لأنهم وجدوها حبيسة أوراق، وحبيسة قاعات ومنابر.
فجمالية الطرح تفتقد إلى التطبيق، ولعل المثل الحلبي عندنا يمكن أن يكون
أكثر دلالة : " اقرأ تفرح. جرِّب تحزن " .
- ومن سلبيات الإسلام المعاصر، أنه على الرغم من كثرة المتحدثين باسم
الإسلام، والمنادين به، إلا أننا بحاجة إلى نماذج مقنعة بين المسلمين، أكثر
مما هي عليه اليوم، فنحن نريد النموذج المقنع، وفقدانه من حيث الكم، لا من
حيث الأصل، هو سلبية أخرى.
- السلبية الثالثة: هي سلبية فقدان الواقع الداعم، وهذا الواقع الداعم
ينبغي أن يكون مجتمعاً، أو مكاناً، أو أسرةً، أو مدينةً، وكلما اتسعت
مكانته التجريبية، ومصداقيته، كلما كان مقبولاً أكثر لدى الناس.
نحن نحدث الناس عن الإسلام، وإذ بالواقع الأفغاني يظهر على الساحة، ليجعلنا
نخفي بعض حروف روعة الإسلام ورونقه. نحدثهم عن الإسلام العظيم، فتظهر مشاكل
ما بين المسلمين في البوسنة، بعد أن انتهت مشكلتهم مع الصرب. نتحدث عن
الإسلام، فتكاد أن تختفي حروف الإعجاب من على ألسنتنا. نحدثهم عن الإسلام
فيعجبون به، وإذ بهم يرفعون من وراء رؤوسهم، لنراها نحن حتى تشكل عندنا
شيئاً من الشعور بالتواري. وما يحدث بين المسلمين من تيارات، مثلاً بين
الصوفيين والسلفيين من صراع، لا يجري بين العدو وعدوه، هذه أهم سلبيات
المشهد الإسلامي.
وإذا أردت أن أتحدث عن إيجابياته:
أولاً- فمنها أن هنالك ولادة في الشباب تدعو إلى ضرورة التعرف على الإسلام،
ليس على سبيل التقليد، وإنما على سبيل الشعور المنبثق من داخلهم بالذات،
وهذه نقطة إيجابية، فمعرفة الإسلام تؤدي بالضرورة إلى الاقتناع به. وإلا
فكيف تفسر إقبال الشباب اليوم على الإسلام في منابره المختلفة، في صلاة
الجمعة، وفي المحاضرات والندوات، وأنا أُدَرِّس في كلية الحقوق، أستشعر
حضوراً متزايداً عن كافة المواد الأخرى، وهذا دليل حرصهم على معرفة الإسلام
.
- ثانياً: إن هناك رغبة لدى الشباب الإسلامي في التعرف على الإسلام الأشمل
والأوسع، والعدول عن الإسلام الضيق الذي جُرب منذ فترة، إسلام الأحزاب
والجماعات وغيره، فهناك يقظة من أجل البحث عن الإسلام الأشمل، والبحث عن
الثوابت التي تجمع بين المسلمين، وأصبح بعض الناس يبحثون عن القواسم
المشتركة بين كل المسلمين ونرى آثار ذلك في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
- ثالثاً: نوع من الالتفات إلى القرآن الكريم، لدراسته بحثاً وتطبيقاً،
لاسيما وأن الاكتشافات العلمية، والتقدم العلمي في المساحات الأخرى من
العالم الإسلامي ساعدت، من خلال رصيدها القرآني، على توثيق العرى بين
المسلمين والقرآن، وهذه الإيجابيات كلها مترابطة بعضها ببعض، وأنا أعتقد
أننا نسعى إلى إعادة رسم ملامح الحضارة الإنسانية التي ننشدها، لأن ميزة
حضارتنا هي النص، فالعودة إلى القرآن هي عودة للحضارة.
المستقلة : هذه اليقظة أو الصحوة التي تحدثت عنها، يعتبرها الكثير
من الدارسين شكلاً من أشكال الهزيمة، هزيمة تجارب التحديث العربية، ومبررهم
في ذلك ضبابية المشاريع الإسلامية المطروحة، كيف تقيّم هذا الرأي ؟
د. عكام : لا أدري من أين يتصيد هؤلاء المتهمون للإسلام هذه الأفكار
ويعبرون عنها ؟ أنا أرى أن المسلمين اليوم قد بدؤوا يتلمسون بوادر استيقاظ
لا يقظة، وهؤلاء الذين ذكرتهم يطلبون من المسلمين كل شيء بين ليلة وضحاها،
فإذا لم يستجب المسلمون، على حد زعم هؤلاء، بتقديم المشروع، فهم حسب زعمهم
غير قادرين على إدارة الواقع. على أنني أضيف وأقول : إن هؤلاء الذين يصفون
المسلمين والإسلام بالانهزامية في هذا الوقت، وأنهم يحيلونهم على مشاريع
ضبابية، أعتقد أنهم لو يطلعون على كل مساحة البانوراما التي يشملها
الإسلام، إن في الوضع الراهن، أوفي الوضع السابق، فلو أنهم اطلعوا على نتاج
المسلمين، سواء كان حديثاً، أو تراثاً، لوجدوا أن ما نتج عنه من مشاريع
نهضوية، أو انبعاثية، يمكن أن يشكل في وعي هؤلاء المنتقدين مشروع قناعة بأن
الإسلام - فيما إذا توبع في نفس الخط الذي ظهرت على أساسه البوادر- سيقدم
المشاريع الجيدة. وأنا أخاطب هؤلاء المنتقدين، وأقول لهم : بدلاً من اتهام
المسلمين بتقديم مشاريع ضبابية، ينبغي أن لا تكونوا أنتم ضبابيين أمامهم،
وذلك بأن تدرسوا الإسلام، فإن وجدتم فيه الضبابية من خلال الدراسة ومصداقية
الاطلاع، فاحسموا الأمر، وإن لم تجدوا ذلك، ووجدتم القابلية فساعدوا هؤلاء
المسلمين، وكلنا أبناء وطن واحد، وأرض واحدة، وجغرافيا واحدة، ولا أدري هل
أنكم لا تريدون الإسلام لأنه إسلام، أم أنكم لا تريدون الإسلام لأنه يحمل
بذور نهضة.
المستقلة : تحدثت قبل قليل عن الواقع الأفغاني، كسلبية من سلبيات
الإسلام المعاصر، وهذا نموذج لظاهرة إسلامية معاصرة· برأيك هل يمكن إيجاد
أرضية استراتيجية بين التيارات الإسلامية، قبل غيرها، يمكنها أن توجد
النموذج الواقعي المقنع الذي تحدثت عنه ؟
د. عكام : لقد ذكرت مرة أن هنالك عدداً من المنظمات الدولية: كالأمم
المتحدة، وجامعة الدول العربية، أتمنى أن يكون هناك شيءٌ آخر اسمه " جامعة
الحركات الإسلامية " هو حلم· ولعله يتحول إلى حقيقة. وهي جامعةٌ لا يغني عن
ضرورتها وجود عدد من المنظمات الإسلامية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي. وهي
جامعةٌ يكون فيها لكل حركة إسلامية ممثل، من أجل أن تجمع المشترك بين هذه
الحركات، وأن تقدم مشاريع معينة، لأن الحركات الإسلامية تتفق جميعها على
هدف الإسلام الذي يغطي الإنسان، وتبغي الإسلام أرضاً تجمع الإنسان، كل
الإنسان. وعندما يكون هناك مثل هذه الجامعة، ومثل هذا التحديد للقواسم
المشتركة، سنكون وقتها أمام قطعيات في هذا الدين، والقطعيات كفيلة بأن ترسم
الهيكل العام لمشروع، أو تيار، أو سمِّه ما شئت، لأسس مجتمع إسلامي معين،
وسيكون في اعتقادي مقبولاً بين الناس، وبالتالي يتحول هذا المشروع إلى واقع
ملموس.
المستقلة : تأسيس مثل هذا الهيكل، الذي أسميته بالجامعة الإسلامية،
يقتضي بالضرورة إيمان أعضائها بالحوار، وحق الاختلاف، والديمقراطية. هل
هناك استعداد لمثل هذه الشروط لدى تيارات الإسلام السياسي المعاصر ؟
د. عكام : أقول: إنني قبل دعوتي لتأسيس جامعة حركات إسلامية، أدعوهم
إلى إعادة النظر، كلٌّ في حركته، في حكم الإسلام في الحوار، والاختلاف،
وضرورة اللقاء بين المسلمين، على اختلاف توجهاتهم التكتيكية وليست
الاستراتيجية، فإذا تم الإلحاح على هذه المراجعة، والتأكيد على أنها تطرح
الإسلام لكل الناس، لكل نواحي حياتهم، والإنسان هذا فيه جزءٌ كبيرٌ يطلب
الحوار، إذ بطبيعته الأنثروبولوجية يطلب الحوار، فما هو إذن موقف الإسلام
من الحوار ؟ ومن الديمقراطية ؟ ومن اللقاء ؟
وبما أنني واثق من أن الإسلام سيقدم لتلك الأسئلة الجواب الناجع والمطلوب،
أردُّ الإنسان المسلم إلى دينه أخذاً بالمثل: "من فمك أدينك "، فارجع إلى
دينك إذن، والرجوع إلى هذا سيؤدي بالضرورة إلى الاقتناع بالحوار والاختلاف،
ونحن اليوم نتحدث عن الحوار بين الإسلام وغيره من الديانات والحضارات، فما
بالنا إذا قلنا بين المسلم والمسلم.
المستقلة : كثير من الإسلاميين اليوم يرفضون الديمقراطية صراحةً،
ويدعون لطرق أخرى يسمونها جهاداً، ويسميها خصومهم عنفاً. ما هو تصورك
للديمقراطية والعنف ؟
د. عكام : هنالك مصطلحات منظِّمة، وهنالك مصطلحات معمِّقة ومؤسسة
لمضامين ومفاهيم، وعندما يتحدث الناس، والعالم كله، عن الديمقراطية فهم
يتحدثون عن مصطلح منظِّم، ونحن مع المصطلحات المنظمة، والإسلام يتبنى كل
مصطلح منظِّم، لأن الإسلام دين النظام. وحين تكون الديمقراطية مصطلحاً
منظماً، أي القصد منه أن يصل الناس إلى التفاهم بطريقة سلمية، فالإسلام
معه. ولعل مَن رَفضَ الديمقراطية، رفضها على أنها مصطلح محقق ومؤسس لمفاهيم
مغايرة للإسلام، فهم الديمقراطية على أنها حكم الشعب نفسه بنفسه، بمعزل عن
أن يأخذ هذا الشعب حكمه من ربه، أومن القرآن الكريم فهذه قضيةٌ مرفوضة. لكن
حينما نفهم الديمقراطية مصطلحاً منظماً، يعني الحوار والتفاهم، وهو المطلوب
أولا،ً لأننا عندما نتحدث عن الجهاد في الإسلام، نتحدث عن الدعوة أولاً، ثم
بعد ذلك تأتي مرحلة القتال، فالأصل في الجهاد هو الدعوة، والدعوة حوار،
وليست عدم السماح للآخرين بالكلام. الدعوة هي حركة تفاعلية بين من يدعو ومن
يستقبل، وتحدث الله سبحانه وتعالى في قرآنه عن المجادلة: ( قد سمع الله قول
التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) المجادلة/1،
فهذا السماع للمحاورة هو ديمقراطية اليوم، على أساس أن الديمقراطية مصطلح
منظم. لما ننتقل الآن خطوةً أخرى أقول: بأننا لما سلكنا الديمقراطية، بمعنى
المصطلح المنظِّم، سلكناه بقناعة، فلئن فشل هذا الأمر فلا يعني ذلك العدول
عنه، وفشل أي فكرة، لها أدلتها ومصداقيتها في الإسلام، لا يعني العدول
عنها، وأحياناً كما قال الإمام الغزالي: إذا فشلت الفكرة فقد يكون السبب لا
يعود إلى الفكرة في حد ذاتها، وإنما إلى من طبق هذه الفكرة في علاقته
وارتباطه بها. وإذا فشلت الديمقراطية لابد من إعادة النظر في قيامي بهذه
الفكرة، والإمام الغزالي يقول أيضاً : " لا تَلُمْ إنساناً لم يستجب لك،
وأنت تدعوه إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما يدريك أنك إذا أردت أن
تبلِّغ هذا الإنسان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، بلَّغته مذمماً،فرفض
محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ! وهو في الحقيقة رفضك أنت بأسلوبك، ولم
يرفض محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
المستقلة : هناك انتقادٌ آخر موجه للإسلاميين، ويتعلق الأمر بالمرأة
وحقوقها ومكانتها. فالإسلاميون، حسب رأي خصومهم، ينظرون إلى المرأة نظرة
دونية. هل لك أن توضح الصورة ؟
د. عكام : يروقني كثيراً حديث عباس محمود العقاد في كتابين له: عن
المرأة في القرآن، والمرأة بشكل عام، ولست أدري من أين أتى هؤلاء المنتقدون
للإسلام بهذه المقولة عن الإسلام، ونظرته الدونية للمرأة، ربما كان في
البداية نوعاً من الاتهام الذي لا يستند إلى الواقع، لكنه يؤسفنا بعد ذلك
أن نسمع من منتقدين، انتقادات تنسب للإسلام، وهي مأخوذة من غير الإسلام،
مأخوذة من عادات لبعض المسلمين، وليس بالضرورة أن كل ما صدر عن مسلم من
عادات أن ينسب للإسلام، فالمنتقدون للإسلام برأيي انتقدوا، وحق لهم ذلك،
عادات بعض المسلمين، ندعوهم لتصحيح مصدرها، وهو العادة، وليس الإسلام. ونحن
نعرف أنه ليس هيناً أن يغير الإنسان عاداته بمجرد شهادته أن لا إله إلا
الله، إذن فهم حملوا هذه العادات على الإسلام، ثم انتقدوه بما ليس منه، هذا
أولاً. الأمر الثاني: أنا لا أريد أن أتحدث عن المرأة كما فعل عباس محمود
العقاد، وأريد للمرأة أن تتحدث عن نفسها، ولعلي حينما أتحدث عن المرأة أثبت
قضية الدونية لها، وأعتقد أنها ستقتنع بمصداقية التوصيف القرآني لكل إنسان.
وأنا من خلال اعتراضاتي على منتقدي الإسلام، أنها إما أن تكون تابعة
للعادات، أو لجهلهم بالإسلام، وأتمنى أن يكون هناك فدائيون يقومون
بانتفاضة، يحولون فيها النظام الإسلامي إلى واقع، هم سيتحملون عناءً وشتماً
واستهزاءً من قبل المسلمين أول الأمر، ومن قبل المسلمين العادويين (أتباع
العادة)، وسيتحملون أيضاً بعض العناء من هؤلاء المنتقدين للإسلام، لأن
قسماً كبيراً منهم لا ينتقدون الإسلام لأنهم يمتلكون مقومات الانتقاد، ولكن
من باب ردة الفعل لا غير، أومن باب التبرير دون التفكير.
المستقلة : هنالك مسألة أخرى، أثارها ويثيرها عددٌ من المهتمين
الإسلاميين وغيرهم، وهي مسألة " الردة " وحكم الإسلام فيها. أثرناها في
"المستقلة " وقال فيها الترابي بأن حكمها مأخوذ من حدث عسكري آني، وأيده في
ذلك المفكر جودت سعيد، في حين قال آخرون بأنها حكم شرعي أصلي، هل لك رؤية
في هذا الموضوع ؟
د. عكام : كما قلت منذ قليل، أنا على ثقة بالإسلام ونظامه، ولكن علي
أن أسعى وأجتهد للوصول إلى ما قاله الإسلام، في أي نقطة ما. وكل ما أخشاه
أن يحول كل إنسان رأيه إلى قضية قطعية قالها الإسلام، وما يقوله الدكتور
الترابي، والأستاذ جودت سعيد، هو لخوفهم من أن يوصم الإسلام بالعنف
والسطوة، ولكن أيضاً ليكونوا معي مطمئنين، فحينما تحدث الإسلام عن قضية قتل
المرتد، لم يكن حديثاً عشوائياً، أو سريعاً، أو مصادرة لحق الإنسان. ووجود
عقوبة لفعل معين اتفق علماء القانون وأهل الدستور على تجريم هذا الفعل، فما
أعتقد أننا اليوم بحاجة إلى دراسة كل جريمة ،لنقول هذه العقوبة كبيرة أو
قليلة عليها. أهل القانون بحثوا، وقالوا هذه الجريمة تحتاج إلى هذه
العقوبة، لكن هذه الجريمة الآن معقدة، ولا يعني أننا نحن الذين نحكم على
الشخص بالارتداد والقتل كأننا نسارعه الوقت لنقضي عليه، فنحن يمكن أن نراعي
ما قاله الترابي وجودت سعيد في طريقة تطبيق هذا الحكم، وليس في إلغاء
الحكم، وليس في العدول عنه، يعني أن الخير المبتغى عند الترابي وجودت سعيد
يراعى في منهاج تطبيق الحكم، ونتحدث عن انعطافية الإسلام في كيفية التطبيق.
وإلغاء العقوبة، والاجتهاد في إقصائها، هو اختراق لأمر لا يقبل الاختراق من
قبل اجتهاد بشري أو شخصي، ولا يقول الأستاذ جودت سعيد هذا. هذا أمر رباني
أن ينصب على أصل الحكم، لا على تطبيق الحكم، فالسرقة عقوبتها قطع اليد،
وهذا لا اجتهاد فيه، لكن تطبيق الحكم فيه اجتهاد، واجتهد عمر رضي الله عنه،
ولم يقطع يد السارق. فأنا أقول لكل من الطرفين: أيها المانعون لمثل هذه
العقوبة، ما تريدونه من خير، مُراعى في التطبيق، ونحن نمتلك القدرة على
الاجتهاد في التطبيق، فقد يرتد إنسان حسب الظاهر، ولا نحكم عليه بالردة.
ونقول للطرف الآخر: أيها القائلون بتطبيق هذا الحكم آمل أن يكون عدم
اجتهادكم فيه منصباً على الحكم بحد ذاته، عقوبة الردة القتل هذا صحيح، ولكن
عليكم أن تجتهدوا في التطبيق، وعند ذلك نستطيع أن نقدم قانون العقوبات،
وتقديم الإسلام بدون هذا القانون لا يعني مدحاً للإسلام، ولكن عقلنة
العقوبات في مناسبة الحكم، وفي كيفية تطبيق الحكم، أعتقد أن هذا هو الذي
يمكن أن يدعى إليه الناس.
المستقلة : هناك مسألة مطروحة بإلحاح في الفكر الإسلامي المعاصر هي
علاقة المذاهب العقيدية ببعضها، ويتعلق الأمر بتجربتين إسلاميتين في إيران
والسودان، فالأولى شيعية والثانية سنية، وما يلاحظ من جفاء بين البلدين
ينبئ بعدم وجود مشتركات بينهما، كيف تقيم هذا الوضع ؟
د. عكام : المشكلة أننا أحياناً نعمم جزء الإسلام على كله، بمعنى أن
الإسلام سياسة واقتصاد وعبادة وأخلاق. فأحياناً نتحدث عن الإسلام من خلال
نظرتنا للسياسة فقط، أو الاقتصاد فحسب، أنا أقول : قد يكون هناك تنافر بين
دولة وأخرى، لكن هذا التنافر،صحيح أنه تنافر بين المسلمين، لكنه في نقطة
واحدة هي السياسة، أو التكتيك، على فرض الفرق بين الاستراتيجية والتكتيك
،فلما نتكلم من خلال الإسلام السياسي، سنجد تنافراً لكن لما نتكلم من خلال
إسلام العبادة فليس هناك تنافر، فالناس يصلون في السودان كما في إيران،
والزكاة هنا وهناك، والأخلاق هنا وهناك. وعندما نتحدث عن إسلام العقيدة،
فهناك يُتحدث عن إيمان بالله ورسوله، كما في البلد الآخر. نتحدث عن الإسلام
السياسي، فنجد هناك تنافراً، فنقول: إن في الإسلام تنافر. هذا تعميم للجزء،
فبيني وبينك قواسم كثيرة مشتركة، لكن عندما تبحث فقط لماذا لا نكون تونسيين
فأنا لست تونسياً، أنا سوري، وهذا لا يؤثر على طبيعة العلاقة، حينما تنظر
من خلال التونسية تجدنا مختلفين، لكن حين تنظر إلينا من خلال سلوكنا فنحن
واحد، فمن هنا أقول : بأن المسلمين اليوم مدعوون إلى تقديم أسس وحدة نظرية
بين أكبر عدد ممكن من الناس، وهذه الوحدة مطلوبة من الشيعة والسنة،
والمذاهب الأخرى بالشكل التالي : شكلٌ لا يعني أن يكون السني شيعياً، ولا
أن يكون الشيعي سنياً، ولكن يعني أن يقدم السني والشيعي خطاً، أو دائرة
مأخوذة من هذا الإسلام، من خلال المتفقات والمشتركات، تجمع هؤلاء وتبين
للناس كافةً أننا بالرغم من اختلافنا في نسبة 10%، فإننا متفقون على 90%،
وأن الاتفاق الكامل غير ممكن، ولابد أن يكون هناك اختلافات. ويكون هذا
التقديم من خلال التأكيد القولي والتأكيد العملي، وأملي، في إيران والسودان
وغيرهما، أن نختلف في أشياء كثيرة، وهذه سماها الإسلام ظنيات، وأن لا تتحول
سياسة خلاف الظنيات إلى سياسة مواجهات، وأن يسعى من أجل إظهار وشيجة
الأخوة، وعلاقة الأخوة، من خلال القطعيات التي تؤسس لعلاقة وارتباط، وإذا
ترك الغرض جانباً فأعتقد أننا سنلتقي جميعاً، لأن مقومات اللقاء بيننا
موجودة.
المستقلة : يرى كثير من الدارسين العلاقة المفترضة بين العالمين
الإسلامي والغربي صدامية، وآخرون يقولون بالحوار بينهما،من خلال معايشتك
للغرب وللمسلمين، كيف ترى هذه العلاقة ؟
د. عكام : قد نكون محل إسقاط لعداوات سابقة، ولا أدري حقاً كيف
تهيأنا نحن أن نكون وارثين لعداوات بدل أن نكون وارثي إصلاحات، لذلك ورثتنا
الحروب الصليبية اليوم رفضاً للغرب، وكلما تكلم إنسانٌ عن الغرب عليه أن
يشتمه. ويفعل الغربي نفس الشيء، فقد ورث العداوة للشرق فبمجرد الحديث عن
الإسلام يشتمه. لكن هناك بوادر في الغرب إصلاحية جيدة، نقدت تاريخها الذي
حملها عداوات لم يعيشوها، وتريد الآن التخلص منها، وأنا أقول الآن لأبناء
بلدي وديني: من يدري فلعلنا نحن نظلم الغرب في لحظة ما، إذا عاديناه لمجرد
كونه غرباً، لأننا ننظر إلى الغرب دون النظر إلى الواقع الراهن، بل إلى
سابقه المعادي، وهو يقول لك: لماذا تحاسبني على جريرة أبي وجدي ؟ أقول يمكن
أن يقبل الغرب الشرق، ويمكن أن يقبل الشرق الغرب بكل بساطة، لكن هذا يحتاج
إلى أمور :
الأمر الأول: التعرف على المخاطَب، فإن لم أعرفك لا أستطيع أن أتحدث عن
مقبولية بيني وبينك. فلنعرف الغرب إذا أردنا أن نتحدث عن علاقة، عن حوار،
عن صلة بيننا وبينه.
الأمر الثاني: أن نخاطب الغرب بضرورة معرفتنا نحن، لا أن يتعرفوا علينا من
غيرنا، ولا أن يحكموا علينا من خلال مواقف أجدادهم مع أجدادنا، في يوم من
الأيام. إذاً علينا أن نتعرف على الغرب، وعلى الغرب أن يتعرف علينا.
الأمر الثالث: بعد ذلك علينا أن ندعو الغرب إلى الإسلام النقي، الإسلام
العالمي، لا أن ندعوهم إلى عاداتنا على أنها إسلام. ومشكلتنا أننا أحياناً
ندعو الغرب إلى إسلام فيه عاداتنا، وعاداتنا لا يقبلونها. علينا تقديم
الإسلام مجرداً من عاداتنا، مادام الإسلام الذي نطرحه هو إسلام العالمين،
ثم بعد ذلك هم ينزِّلون هذا الإسلام وفق تنزيلتهم الجغرافية، والطبيعية،
وعاداتهم، لأن الإسلام يتحمل التنزيل بحسب كل جغرافيا معينة، ثم علينا في
دعوتنا هذه للغرب أن نظهر له سر الدعوة أو الحوار وهو المحبة، ولكن أنا
عاتبٌ للغرب وأقوله له : أعرفك أيها الغرب موضوعياً، إلا في نقطة التعرف
على الإسلام، فلا أجد موضوعيتك، لقد ساءني جداً، في يوم من الأيام، أن
تابعت برنامجاً في التلفزيون الفرنسي عن أنواع الزواج في العالم، وتحدث كل
طرف عن عادة الزواج عنده، إلا الإسلام، فكان المتحدث عن الزواج فيه قِسٌ من
فرنسا، فهل الموضوعية أن يتحدث عن الزواج في الإسلام قس، أم الموضوعية أن
يتحدث عنه عالم مسلم.
تبقى نقطة أخيرة في هذا الباب، وهي مهمة، وتتعلق بضرورة تعرية أولئك الذين
يقدمون الإسلام بصورة مشوهة من أبنائنا، وأذكر كلمة للترابي هي قوله:(نحن
مقصرون في تعرية بعضنا).نحن نتحدث عن الآخرين ونعريهم. كذلك ينبغي أن نكون
أقوياء في مواجهة بعضنا، حتى إذا ما واجهنا الآخرين لن نُعاتب على أننا
نداهن جبهتنا ونعادي الآخرين.
المستقلة : ولكن هناك شق آخر من الغرب الراهن يعادي العرب
والمسلمين، ويجاهر بذلك من خلال دعمه المطلق لإسرائيل كطرف معادٍ للعرب،
فالغرب الموضوعي هذا يمارس علاقة وراثية عدائية مع العرب، ويكرسها،
والمفاوضات العربية الإسرائيلية أحد وجوه هذا العداء، ما هو الموقف
الإسلامي المطلوب في هذه المرحلة من هذا الموقف العدائي ؟
د. عكام : أولاً- أنا عندما أخاطب الغرب أُفرِّق بين الحكومات وبين
الشعوب، وما تحدثتُ عنه قبل قليل هو الشعوب، وهي التي تهمني، لأن الشعوب هي
التي تصنع الحكومات، وليس العكس. فأما الحكومات الغربية اليوم التي تتعاطف
مع إسرائيل من خلال استجابة لدعوة صهيونية نشطة هنا وهناك ،كانت قد قامت في
غفلة من دعوة إسلامية نشطة واعية، ففي أمريكا ينشط اليهود وكأنهم في تل
أبيب. لذلك أقول: لو أن الجاليات العربية كانت نشطة إلى حد ما، والآن هذا
الكلام نوعٌ من التمني للمجمل العام، ولو كانت متحركة، ولو عملت لوبي كما
فعل اليهود، وتحركت مع الدول والشعوب والأحزاب، لكان لها تأثير. طبعاً نحن
نعرف العداء القديم للإسلام، وهناك أشخاص يدفعون لهذه الأحزاب من أجل أن
يستمروا في عداوتهم للإسلام، لكن لا يجب أن أتهم الشيطان، ولكن أتهم نفسي،
فنحن مقصرون في لحظة ما، وإلا لاتهمنا ربنا عز وجل. الآن بلا شك هناك مأزق
السلام بيننا وبين إسرائيل، أو عرقلة السلام التي تجيدها إسرائيل، هي في
النتيجة عرقلةٌ منا نحن، (ولا يظلم ربك أحداً ) الكهف/49، هم بلا شك أعداء
يشتغلون لعداوتنا، ولكن سيقع اختلالٌ في السنن لو ربحنا الآن، لأن الرابح
يفترض أن يكون قد قدم رأسمالاً كبيراً، فما هو رأس المال الذي قدمناه ؟ أين
العلاقات الطيبة بين مصر والسودان، وأين العلاقات الطيبة بين مصر وليبيا،
وأين العلاقات الطيبة بين العراق وجيرانه، وأين العلاقات الطيبة بين
مدينتين في بلد واحد ؟ فإذا كانت العلاقات غير طيبة بين الاخوة فلا تنتظر
أن تكون هناك علاقات تسير بالسمن والعسل بين العرب وإسرائيل. ما هو موجودٌ
أمرٌ طبيعي جداً، وما بيننا وبين إسرائيل عداوة مستمرة، ولا يمكن أن تصل
إلى سلام مهما طالت، وسيبقى الصراع إلى أن يكون انتصار المسلمين كمؤشر
اجتماع ووحدة والتقاء، ولكن قبل هذا فلنلملم ما بيننا وننزع العداوات فيما
بيننا، فهذا هو الطريق الصحيح، وإذا كان هناك إسرائيلي قد قتل مسلمين
كثيرين في الخليل، فلدينا من قتل في المساجد أضعافهم ! .
التعليقات