في ظل المتغيرات الأخيرة على
الساحة العالمية، وانعكاساتها على الساحة العربية، سؤال يطرح نفسه علينا مجدداً
وبإلحاح، بكل ما فيه من أبعاد اجتماعية وسياسية وحضارية، هذا السؤال هو : أين
الإسلام من هذه المتغيرات ؟! أين موقع الإسلام منها ؟ وما مدى تفاعل الإسلام معها ؟
فالإسلام ما يزال متهماً عند أعدائه، ولا يزال بعضهم يراه بلا منطلقات حضارية. ولعل
الحالة التي آل إليها العرب أخيراً، كانت المستمسك لهؤلاء لكي يطعنوا بالإسلام،
وقصوره الحضاري عن إقامة هيكلية لدولة إسلامية حضارية، وخاصة تلك الموروثات، من
قشور ظاهرة للعيان ترفل بها بعض الشرائح الإسلامية، البعيدة كل البعد عن الإسلام
وعقلنته وفكره العلمي ودعوته للمسلمين وللعالم، إلى العقل، بما تركه من ثوابت لا
يأتيها الباطل، من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبما يرد فهماً من معين ثرٍ من
فقه تناول كل مناحي الحياة الإنسانية.
المفكر الإسلامي فضيلة الدكتور الشيخ محمود عكام، في هذا الحديث يوجز لنا طويل
الإجابة، ويضع النقاط على الحروف، ويمسح عن بعضها الآخر الضبابيات التي تهوم فوقها.
وأول هذه الأسئلة الملحة هو:
المصور : فضيلة الدكتور محمود عكام، هل الإسلام حضارة فاعلة منفعلة وركيزة
لمنطلق حضاري ؟
د.عكام : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله
وآله، وبعد :
كلمة شكرٍ أضعها بين أيديكم في البداية، ورجاءٌ أرفعه إلى الله بعدها، أسأله فيه
صدقَ عطاءٍ خيّر، ونبلَ هدفٍ مستمر لمجلتكم الميمونة (المصور الجديد).
ولا يمكن أن يكون غير الإسلام منطلقاً لحضارة منشودة يسعى إليها الإنسان، ذلك أن
حضارة الإسلام حضارة متوازنة متكاملة، ربانية المصدر، إنسانية الموضوع، شعاعها
ينبثق عن الخلاّق العليم؛ ليلامس الإنسان المخلوق المصطفى صاحب الأمانة، وقائد مركب
الخليقة، في بحر الحياة الزاخر، إلى شواطئ الولاء لمن صدر عنه الإشعاع والهدى
ومناهج الإعمار والإصلاح. والحضارة إنما تعني في أصلها اللغوي:" الحضور "، والإسلام
أكبر حاضر في التاريخ على الواجهة الإنسانية إذ استوعبها روحاً وجسداً، فرداً
وجماعة، مادة وقيماً، وما في القرآن الكريم والسنة الشريفة من آيات وأحاديث، كفيل
بالتأكيد على هذا، وفيما ضمته صحائف التاريخ، وسطَّرته براهين لا تمحى من ذاكرة
السنين. ألم يُدعَ إنسان الإسلام إلى التفكر، ويُحضّ على العلم، وينادى للوحدة،
ويُطالب بالبناء، ويُحث على فعل الخير وقوله ؟ ألم يُرغب بالحب، ويُؤمر بالإنتاج،
ويُعزز بالتقوى، ويُزين بالعفة ؟ أليست الحضارة إلا هذا ؟ وقد قال ابن خلدون عنها:
إنها عمران وزمان برعاية الإنسان.
المصور : ما موقع العالم الإسلامي في إطار النظام العالمي الجديد ؟
د.عكام : إذا كان المقصود بالنظام العالمي الجديد ما أسفر عنه سقوط المنظومة
الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية من تفرد النظم الغربية
الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة، فإننا نعتقد أن
الإسلام من خلال عالمه المترامي، وأفراده المتناثرين، مدعو إلى التوحيد والتجديد
ليقف وقفته النِّدِّية المطلوبة. أما التوحيد فيعني اللقاء الأمثل بين الحكومات
المتعددة، وبينها وبين الشعوب على محاور مستمدة من دينها، وإعلان الهوية الجامعة
علناً وصراحة، والابتعاد عن أي صيغة مفرِّقة، عرقية كانت أو مذهبية أو سواها. وأما
التجديد فهو السعي الجاد من قبل المفكرين المسلمين في كل الأصقاع لإيجاد بنيان
معرفي معاصر، واستراتيجية ثقافية واحدة، مأخوذ من منابع ديننا الحنيف، وتقديمه
للعالم على أنه نظامه الداخلي، له حصانته التي يمنحها تلاحمُنا، وله مؤيداته
الأخروية التي غابت عن ذهن الإنسان المادي اليوم بسبب من إهماله الأبعاد الحقيقية
للإنسان والكون. ولا أريد أن أتحدث عن الدور المرسوم للعالم الإسلامي من قِبَل مَن
قد صنف نفسه سيد العالم، أو النظام العالمي الجديد. فالدور عندئذ تبريرٌ، وتكريسُ
ولاء، وطاعةٌ للسيد المطاع، وتبعيةٌ خانعة، ودورانٌ في الفلك؛ نتلقى الخسوف فيه
والكسوف. ومن المؤسف أن هذا الدور بدأ يُمَرّر على بعض الدول في عالمنا الإسلامي،
وبعض الأفراد، وقادة أشباه الدول أو أوهامها، وقد أمل بعض الصحفيين الغربيين أن
يظهر في العالم الإسلامي نظير "غورباتشوف" الاتحاد السوفييتي ليعقبه"يالتسين" كـ:
"يالتسينهم" ولكن هيهات... ساء ما يحكمون، وبئس ما يؤملون. و أملنا أن تكون سورية
واحدة من الدول التي ستدحض أمل المغرضين وكيد المعتدين.
المصور : هل بالإمكان قيام هيكلية الدولة الإسلامية المعاصرة في إطار
القوانين الناظمة في العالم الحديث ؟
د.عكام : الدولة الإسلامية تلك التي تقوم على ركائز بينة، وقواعد محددة، فهي
التي تتخذ من الإسلام منطلقاً ودستوراً، ومن العدل أساساً، ومن الشورى أسلوباً
ومنهاجاً، وليس مهماً بعد ذلك تسميةٌ معيَّنة أو لقب للقائم عليها محدّد، والطرق
المؤدية إليها، دعوة جادة صادقة، تتحول إلى مطالبة أغلبية كبيرة، يبرمجها أكفاء
يسمّون أهل الحل والعقد، عبر قناة البيعة العامة. والمطلوب ممن يصل إلى المسؤولية
العامة؛ أن يتعرى عن الدماء البريئة، ويرفض القهر والتسلط، وسيلة لبسط السلطة
الشرعية، وأن يحقق ملامح الحق ويظهرها في قوانينه وتشريعاته، والقوانين الناظمة
الحديثة للدولة إن راعت هذه القواعد كانت ضمن الإطار الإسلامي، وإلا فلا. وليست
الدولة التي يحرص عليها الإسلام تلك التي تلزم جانب الحياد فيما يخص الدين ومصدره،
بل لا يمكن للإسلام أن يُرعى بإطار سياسي من غيره، وهو الذي يطرح ذاته إطاراً
حاكماً، ومضموناً اجتماعياً، ونظاماً متكاملاً لكل جوانب الحياة. وكل ما يمكن قوله
عن دولة الإسلام أو عن أسرته أو عن اقتصاده أو عن علائقه العامة: أنه نظام رباني
المصدر، كامل الاستيعاب، تام المعالجة، فهل من نظير أو مثيل ؟
المصور : كيف نفهم كتاب الله اليوم ؟ هل نقرأه كما قرأه السلف من قبل أم
نقرأه اليوم كأنه ينزل علينا ؟
د.عكام : القرآن الكريم كتاب الله ورسالته الخالدة إلى الناس، تمّد الأجيال
المتلاحقة بكل ما تحتاجه، شريطة أن تمتد إليه الفهوم الواعية، والعقول الناهضة
النيّرة، التي تدرك أبعاد دلالاته، وطبيعة نظامه المعرفي، وبنيته اللغوية، وواقع
المخاطَب ومجالاته وظروفه وبيئته، ومن ثم تحسن الربط بين الخطاب والمخاطَب. ولا
يمكن أن نقف عند حدود عصر من العصور للقرآن الكريم؛ لنفرضه على بقية العصور
التالية؛ بل إن هناك ثوابت تتخلل كل العصور يسميها علماؤنا " القطعيات "، وهناك
تنزيلات تتناسب وكل زمن وأحواله، ترعاها وتغطيها وتكتنفها. وأخشى ما أخشاه في هذا
السؤال؛ أن يقفز الذهن إلى ما يسمى بـ " القراءة المعاصرة " وهي كلمة ومصطلح جيد
إلا أن استخدامها لم يكن على مستوى جودة التركيب فيها، فقد حُوِّلت إلى أداة لنسف
الماضي، وتعميم نقطة في الحاضر عليه وعلى المستقبل،" أنا أقرأ القرآن وكأنه عليَّ
أُنزل " هذا صحيح، ولكن التراكمات المعرفية وإفرازاتها لا أستطيع إلغاءها ولا يمكن
أن ألغيها، بل عليَّ أن أكون الحلقة التي تُضاف إلى السلسلة السابقة. هذه الحلقة
تتصف بالأصالة ارتباطاً وبالمعاصرة تكويناً وتناسباً، ولربما قرأ معاصر مبتور
القرآن الكريم، فأوصلنا بفهمه إلى تحليل ما حرم الله قطعاً إذ ثبت ذلك عبر كل
العصور لينهي بزعمه عهداً سابقاً من التشريع، ويحل محله عهداً جديداً، وكأننا أمام
نص لا يحمل في طياته خطاب الإنسان؛ ذي القضايا الثابتة والمتغيرة. أفَيجوز هذا ؟!
أو أننا أمام قانون صدر عن قاصر، لم يستطع إدراك اللاحق والمتأخر، وحاشا لكلام الله
أن يكون كذلك.
المصور : الإسلام لا يعرف الكهنوتية، بحيث يحقق المسلم شرطه الإيماني بلا
واسطة سوى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فما رأيكم بـ " المشيخة " التي
تفرض حضورها على الشرائح الاجتماعية الملتفة حولها ؟
د.عكام : ميزة الإسلام الأولى والأهم وضوحه، ووضوح تعاليمه، ومصدره وأهدافه،
والكهنوتية تلك التي تتحدث عنها - يا صديقي - منافية للوضوح، مناقضة له، وإن أي
تصرف يَمتُّ للغموض والضبابية بصلة في تبيان الأحكام، وتوضيح المبادئ وشرح النصوص؛
ليس من الإسلام في شيء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: " تركتكم على مثل
المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا زائغ " وقد دعا الإسلام أتباعه
للمناقشة والسؤال والبحث والتأكد والسبر، ولطالما حثَّ القرآن الكريم الناس على
التفكر والتدبر والتأمل، وطالب الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المؤمنين
بقوله تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) آل عمران/159. وإنها لصورة رائعة ! تلك التي
حكاها القرآن الكريم عن امرأة جاءت تجادل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في زوجها،
فسجلها القرآن طرفاً في حوار معه، وجمعهما معاً في ضمير المثنَّى، وقد سُمِّيتْ
السورة القرآنية بحالها وصفتِها في هذه القضية فكانت "سورة المجادلة " التي يقول
الله تعالى في مطلعها: ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله
والله يسمع تحاوركما ) المجادلة/1.
نحن نقبل المشيخة على أنها منهاجُ تعليم، وسبيل تفعيل وتحريك، وطريقةُ توجيه. فإذا
تحولت إلى شكلية ضاغطة، وخصوصية غامضة، ونودي فيها: أن يا أيها المريدون اصمتوا،
ولتمت الأسئلة على شفاهكم، ولتستسلموا وإن لم تقتنعوا، ولتلغوا عقولكم حيال ما
يقال، ولتعطلوا تفكيركم فيما تسمعون. عندها تُرفض هذه المشيخة، لتشابهها مع
الكهنوتية التي استقلت بالفُهوم فيها طبقة محتكرة منتفعة، صفَّدت العقل، ورمت
بمفاتيحه في بيداء الهيمنة الكاذبة التي تتكون ذراتها من أوهام وأساطير وخزعبلات.
الإسلام يا محدثي نصٌ ثر واضح مفتوح، ودعوة للعقل قوية من أجل أن يتلقاه مقتنعاً
مسلماً، وإيمان بأركان ليس في إدخالها ساحة التصور أي حرج.
المصور : كيف تبررون هذا الصمت الـمَرَضيُّ الحزين من قبل الدول الإسلامية
تجاه حمامات الدم في البوسنة والهرسك ؟
د.عكام : صمت المسلمين حيال ما يحدث في البوسنة والهرسك نتيجة طبيعية لوضع
متخلف عاشوه فترة من الزمن وردحاً من العمر، ولا يزالون فيه، إلا من رحم الله
والمستثنى جدُّ قليل. وهل نتوقع ممن تناسوا فريضة الجهاد، وزرعوا فيما بينهم
الأحقاد، وشغلتهم الأموال، وفرَّقت صفوفهم الأهواء؛ قبل الأعداء، وحملوا السلاح على
بعضهم، وقد استوردوه من عدوهم، وضيعوا حق الله في الولاء، ونخرَهم الاستهلاك،
وتعاموا عن الإنتاج، واتخذوا الأمة أمماً، وشتتوا الدولة دولاً، ونقلوا تافه
المبادئ من غيرهم إليهم، وأعرضوا عن تطبيق مبادئ ربهم، هل تتوقع من هؤلاء إلا هذا
الصمت الـمُزري المرعب ؟.
وآلـمني وآلـمَ كلَّ حُــرٍّ سؤالُ الدهر: أين المسلمونا ؟
مشكلتنا أننا صدقنا بسذاجة بسمة ذئبية من غيرنا، فكنا الحَمَل الهيِّن افتراسه،
وقضينا زمناً ليس باليسير في ردٍ ضعيف على اتهامات وجِّهت إلينا من قِبل مَن يدبر
بليلٍ هلاكَنا، وهو يغطي فعلته الشريرة بمعسولِ قرار، أو وهم توجيه، ينفعه ويضرنا.
أغتنمها فرصة لأناشد المسلمين حكومات وشعوباً أن يهبُّوا لنجدة إخوانهم في البوسنة
والهرسك، ولعله يغدو في الوقت نفسه درساً يلقّنونه من تسوِّل له نفسه نقل دائرة
النار إلى مكان آخر من العالم، حيث المسلمون الذين يشكلون الخطر الباقي كما يقول
مصوِّبوا السهام ضد الإنسان.
أملنا أن يستيقظ المسلمون قبل فوات الأوان، وإنا متفائلون، ولنُعرضْ عن اتفاقات
منا، ومعنا، وهي ضدنا، ولنُلغِ كل قرار لا يُسَلّم فيه كامل حقنا.
أخيراً: شكراً لمجلتكم، وآمل أن نلتقي في ظلال الكلمة النظيفة، والرسالة الواعية،
والدين الحنيف، وإلى اللقاء .
التعليقات