آخر تحديث: الأربعاء 27 مارس 2024
عكام


بحوث و مقولات

   
أفكار ومنطلقات نظرية في الفتوى

أفكار ومنطلقات نظرية في الفتوى

تاريخ الإضافة: 2007/05/06 | عدد المشاهدات: 5185

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكر أهل هذا المكان القائمين عليه وأشكر الأستاذ البحاثة جمال باروت الذي كلمني أكثر من مرة من أجل أن نلتقي هذا اللقاء، وأردته لقاءً حوارياً وأريحياً تسألون وأجيب، وأسأل وتجيبون ولعل العلاقة بين الأريحية والحوار علاقة وطيدة، وها أنا أقدم بين أيديكم وعلى مسامعكم بعض الأفكار التي تتعلق بالإفتاء بشكل عام ولعلها تكون مرتكزاً بالنسبة لمن يسأل ولمن يجيب ومرتكزاً لمن يحاور.

لقد وضعت أكثر من فقرة أريد أن أتحدث عنها:

الفقرة الأولى: هنالك فرق بين الحكم وبين الفتوى: فالحكم أمر عام ويعبر عنه بالمبتدأ والخبر أما الفتوى فهي تنزيل هذا الحكم على واقعة من الوقائع فهي تكاد تكون شخصية تلامس حالة معينة مسماة.

مثال: أقول: الربا حرام هذا حكم ثم عندما يأتيني أحدهم فيسألني عن حالة معينة كأن يريد أن يستقرض من البنك ليشتري بيتاً أو عيادةً أو آلةً أو...أو...الخ فأقول له يجوز أن تفعل هذا، فهنا أكون قد أخذت من الحكم العام خيطاً وبقيت هذه الفتوى مرتبطة بالحكم العام، فأنا لم أغير الحكم، لأنه لو قال لي أنت قلت استقرض من البنك فهل غدت الربا حلال ؟ أقول له: لا، الربا لم تغدو حلالاً ولكن الواقعة الذي تعيشها أنت لا أرى قاعدة أو حكم الربا الحرام ينطبق عليك فيها فهذا هو الفرق بين الحكم والفتوى.

الفقرة الثانية: هناك قاعدة أصولية تقول: "لا اجتهاد في مورد النص"، لكنني أقول: "الاجتهاد في مورد النص"، وهذا يعني أن الاجتهاد له منحيان أو مستويان إن صح التعبير:

فإما أن يكون الاجتهاد لمعرفة نص الحكم، أو من أجل تطبيق الحكم، فعندما نتحدث عن اجتهاد لمعرفة الحكم نقول لا اجتهاد في مورد نص لأن الحكم معروف، ولكن عندما نتحدث عن اجتهاد يراد منه الوصول إلى تطبيق الحكم فأقول هنا الاجتهاد في مورد النص، وهنا يحضرنا ما فعله سيدنا عمر من إيقافه حد السرقة أو إيقافه سهم المؤلفة قلوبهم فلم يجتهد سيدنا عمر في هذه القضية في معرفة الحكم وإنما في تطبيقه فقال عن هذا السارق الذي سرق في عام المجاعة بأنَّ وصفَ السرقة والعلة التي تؤهله من أجل أن يكون محلاً للعقاب لم توجد فيه ولم تنطبق عليه وبالتالي لا يمكن أن تقطع يده لأن مقومات وصف السرقة لم تتوفر فيه.

الفقرة الثالثة: أنا آمل من نفسي وممن يتصدر للفتيا وهذا مستقى مما قاله السلف الصالح ومن تبعهم من أجل أن يقول بعد أن يفتي هذا رأيي ولا يقول هذا حكم الله عز وجل، فالخطأ يأتي من إعطاء هذه الفتوى القداسة أو نسبتها إلى الله عز وجل، ومستندي في كلامي هذا الحديث الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يقول لمن يرسله والياً أو مسؤولاً عن سرية: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) وهناك حادثة عن سيدنا أبي بكر تؤكد هذا الذي قلناه وهي أنه لما سئل عن الكلالة قال: "الكلالة من لا والد له ولا ولد" ثم أتبع بقوله: "هذا رأيي، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان".

الفقرة الرابعة: بالنسبة لي أنا أقول أنه لا يمكن أن تكون هناك فتوى بالتكفير وهذا من الناحية العلمية وما أعتقد به علماً وإيماناً وديناً وشريعةً وليست الوعظية أو الاجتماعية أو الناحية التي يراد منها المداراة، فالفتوى لا علاقة لها بالتكفير، والتكفير ليس إليك أيها المفتي أياً كنت، لأن التكفير حالة يشعر بها الإنسان بنفسه، وبالتالي من يكفره يجب أن يتبع هذا التكفير بأحكام ذكرت في مظانها، فهو إذاً إلى الدولة عندما تضع الدولة التكفير في قانونها العام أو أمن الدولة أو... سمّه ما شئت. فإذاً التكفير ليس إليك سواء أكنت مفتياً أو شيخاً أو مسؤولاً دينياً. ووجدت عند القرطبي عنونة في المفهم شرح صحيح مسلم: خطر التكفير، وقلت في نفسي القرطبي منذ ذاك الوقت يتحدث عن هذه القضية الخطيرة جداً والتي نعاني منها اليوم ما نعاني، وهو يقول: "باب الكفر باب خطير أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا وتوقف فيه الفحول فسلموا ولا نعدل بالسلامة شيئاً". ومن أجل ذلك كان يقول: "أنا أعلم الفحل العالم المتبحر وأميزه عن غيره من خلال هذه القضية (التكفير) فإن كان يقول بها فليس من العلماء ولا من المتبحرين وإلا فهو منهم".

الفقرة الخامسة: أريد أن أتوجه إلى المفتي لأقول له: أنا لا أريد أن أقول له كن عالماً أو متبحراً أو مخلصاً وإنما أقول وكما قال ابن القيم في كتابه: [إعلام الموقعين عن رب العالمين]: "انتبه فأنت عندما تفتي فإنما توقّع عن رب العالمين، فاستحضر عظمة من توقع عنه وهيبة المكانة التي تتبوؤها وهيبة الكلمة التي تصدر عنك وتنسبها في النهاية إلى دين الله عز وجل".

ولذلك يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: "إذا كان منصب التوقيع عن الملوك في المحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو أعلى المراتب الثنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات".

الفقرة السادسة: وهي استتباع للفقرة السابقة يجب أن يفتي على أساس من انتساب بين الفتوى والنص أي يوجد النسب بين الفتوى والنص، والنص عندنا هو القرآن الكريم ونسميه المصدر الديني الإسلامي التأسيسي أو مصدراً مؤسساً، إذاً فعليك أيها المفتي أن توجد الرابطة ليس مع الناس أو المستفتي، وإنما بين الفتوى التي يصدرها وبين المصدر التأسيسي الذي هو القرآن الكريم.أما السنة فليست مصدراً تأسيسياً وإنما مصدر توضيحي.

ومستندي في هذه الفكرة التي ذهبت إليها قول الله عز وجل: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ وقوله:﴿ألا له الخلق والأمر﴾ فمن خلق شرع وكان مؤسساً أو جديراً بالتأسيس للتشريع، أما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو مبلغ وناقل لا أكثر ولا أقل وهو أمين في تبليغه ووفيٌّ لما يبلغه، وربنا عز وجل قال في هذا الشأن: ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين﴾، فالسنة إذاً مصدر توضيحيٌّ وفيٌّ للمصدر التأسيسي القرآن الكريم، فعلى المفتي أن يكون في ذهنه ربط بين الفتوى وبين النص التأسيسي القرآن  والتوضيحي السنة النبوية، ولذلك قال ابن عمر لجابر بن تيم: "إنك من فقهاء البصرة والدليل على ذلك أنك لا تفتي إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت، وأنا أقول أن على المفتي أن يكون هذا الأمر قائماً في ذهنه وليس عليه أن يبينه للناس".

الفقرة السابعة والأخيرة: نتمنى ممن يفتي سواء في الشريعة أو القانون أو أي أمر آخر ألا يتعجل وأن يتحمل وأن يكون على بينة من أمريّ التوثيق والتحقيق في أي قضية يكتب تحتها أنها قضية علمية وفي كل علم ينبغي ألا يغيب عن ذهن المفتي وعن بال أي إنسان سواء أكان طبيباً لأنه مفتي في الطب أو مهندساً فهو مفتي في الهندسة ألا تغيب قضية التوثيق والتحقيق لأننا اليوم نرى متعجلين في الفتاوى القانونية والشرعية وما أكثر اليوم الفضائيات التي تصدر فتوى هنا وفتوى هناك، وما أعتقد أن هذه الفتاوى قام في ذهن صاحبها أو مفتيها قضية الربط بينها وبين المصدر الذي يستقي منه المؤسس القرآن والموضح السنة الشريفة، ولذلك ورد عن الشعبي والحسن كلمة أعجبتني كما في البيهقي قالا معاً: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت هذه المسألة على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر".

وعن سفيان بن عيينة وسحنون أنهما قالا: "أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً"، وعن الهيثم بن جميل أنه قال: "شهدت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري". وأنا من باب الدعابة قلت لطلابي: لو سئلنا اليوم عن ثمان وأربعين مسألة، لأجبنا عن خمس وسبعين بأدري...، وورد عن أبي حنيفة أنه قال: "لولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون لهم المَهنأ وعلي الوزر"، ووجدت كلاماً للشافعي كما في المهذب قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله ودعوا قولي"، ويقول أيضاً: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وهذه العبارة وردت أيضاً في كتب الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وكل كتب المذاهب.

وأخيراً كتبت مقالة بعنوان: الفتوى إلى أين ؟ قلت فيها:

الفتوى رأي إنساني مزج عن تماس التفكير الجاد بالنصوص الشرعية الأصلية وما سميت الفتوى فتوى إلا لأنها رأي فتي يدل على الجدة والآن والحال، والفتوى أيضاً اجتهاد في التعرف على مرادات الشرع في واقعة من الوقائع الحاصلة بالاستناد إلى نصوص ثابتة من قرآن وسنة صحيحة، والأصل في الفتوى أنها تقبل الصواب والخطأ حتى ولو صدرت عن جماعة من الفقهاء والدارسين لأنها استنباط بشري واجتهاد إنساني.

فإذا كانت الفتوى كذلك فلماذا يحرم على الآخرين مخالفته وما بال من لا يفتي منا ؟

أيها المفتون على اختلاف توجهاتكم المذهبية وسواء من كان منكم يفتي بجدارة أو من غير جدارة مهلاً في إعطاء الفتوى وهذا أولاً.

ثانياً: أدرسوا موضوع الفتوى دراسة واعية جادة واطلعوا على سائر جوانبه القريبة منها والبعيدة ولا تستخفنكم عاطفة الحب والكراهية فتجانبوا الجد والسعي الموضوعي.

ثالثاً: لا تقصروا الحقيقة على فتاواكم بل التمسوا الحقيقة فيها وفي غيرها التي صدرت عن غيركم أيضاً.

رابعاً: لئن رأيتم أنكم غير قادرين على إنتاج الحكم في هذه المسألة أو تلك نتيجة عدم إلمامكم بالموضوع أو بآلية الاستنباط من النص فقولوا: لا أدري، والعاقل من صدر المحقق الموثق والأحمق من اكتفى بنفسه لنفسه وأعرض عن صحيح صادر عن غيره.

وأخيراً: الفتوى أمانة فهل نرعاها، والفتوى مسؤولية فهل نوليها حقها، والفتوى عطاء فهل نقدم الذي ينفع ولا نفع إلا إذا كان - وهذا بالنسبة لي كمسلم - من القرآن والسنة بشكل موثق ومحقق وصحيح ومضبوط.

والفتوى بعد هذا كله توقيع عن رب العالمين فليعلم الموقّعون بأن لهم موقفاً بين يدي من يوقعون عنه وسيسألهم هل بذلتم من أجل التوقيع عني ما أمرتكم ببذله لتكونوا لهذا أهلاً، والله أعلم.

هذه أفكار نظرية أو مرتكزات منطلقات نظرية سمها ما شئت ذكرتها وهي التي تشكلت في ذهني وأنا أمارس الفتوى بشكل رسمي منذ ثلاثة أشهر وقد مارستها من قبل أيضاً لأن كل شيخ يمارس الفتوى حيث ما كان باعتباره قدم نفسه للمجتمع على أنه صاحب اختصاص في هذه القضية.

والواقع الآن أنني وأنا أمارس عملي في الفتوى أقوم بعملية الرصد للمسائل الأكثر سؤالاً من قبل الناس، وكيف يفتي الإخوة المفتون في دار الإفتاء هل يعتمدون المنهج العلمي في الفتوى أم ينقلون، وقد تحدث العلماء السابقون عن الفرق بين المفتي والناقل لفتوى غيره وقالوا: بأنه يجب على من ينقل الفتوى أن يبين بأنه لا يعدو أن يكون ناقلاً عن شيخ ما أو فقيه ما من الناس، وأبحث لماذا يبحث المفتي عن الأيسر والأسهل هل هذا البحث من أجل ضمانة نسبة هذا المستفتي إلى الإسلام أم من أجل تسويق للمفتي، وسيصدر لي كتاب تحت عنوان فقه وحياة أسئلة وإجابات، وهو عبارة عن عدد من الفتاوى أسئلة مع إجابات وضمنته هذه المقدمة البسيطة التي ذكرتها.

الفتوى مسؤولية فلنقم بها بأمانة

 وإذ يسأل المستفتي عن قضية ما ويود أن يعرف ما يرضي الله في مسألة ليفعل أو يجتنب أو يطمئن إلى متابعة فيما يرضي مولاه، ويفتي من يفتي وقد وضع في ذهنه أكثر من صورة واحتمال فهو أحياناً يشدد معتقداً أن الله يرضيه التشدد في مواجهة التيسير والتساهل، وهو تارةً يخفي قولاً ميسراً خشية طمع الناس المؤدي إلى التسيب والانخلاع من ربقة الدين درجة فدرجة، وهو مرات يخالف في كلامه حقيقة من طبع في ذهنه وعقله وقلبه طامعاً في إرضاء من حوله من المتشددين من المفتين والمستفتين.

وقليل أولئك الذين يسعون في فتاواهم إلى إرضاء الله ثم المستفتي عبر قناة التيسير العلمي والمعرفي والرفق السلوكي ابتغاء وجه الله فإلى هؤلاء أقدم هذه الأفكار.

هذا ما لدي وآمل إن كان لكم أسئلة أو حوارات أن تقدموها.

التعليقات

وليد

تاريخ :-1/11/30

كلمة جامعة ونصيحة نافعة جزى الله تعالى كل الخير قائلها ومداخلتي فيما تركه الأئمة الفقهاء رحمهم الله تعالى جميعا في دائرة الثوابت هل نعتمده أم نجدد بحوثنا لأننا في عصر مغاير ومثال ذلك سفر المرأة من غير محرم ، الغناء مع الآلة ، وغير ذلك أفيدونا جزاكم الله تعالى خيرا

محمود النعمة

تاريخ :2008/08/24

كلمة جامعة ونصيحة نافعة جزى الله تعالى كل الخير قائلها ومداخلتي فيما تركه الأئمة الفقهاء رحمهم الله تعالى جميعا في دائرة الثوابت هل نعتمده أم نجدد بحوثنا لأننا في عصر مغاير ومثال ذلك سفر المرأة من غير محرم ، الغناء مع الآلة ، وغير ذلك أفيدونا جزاكم الله تعالى خيرا

شاركنا بتعليق