آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
مقومات الفضيلة

مقومات الفضيلة

تاريخ الإضافة: 2007/07/06 | عدد المشاهدات: 4058

أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون:

منذ أكثر من شهرين، زارني وفدٌ من بلد أجنبي، وفد أكاديمي، وكان الحديث بيننا حول صفات مجتمعٍ مطلوب. ما ملامح المجتمع الذي ننشُده نحن الذين ننتمي للإنسانية بغضِّ النظر عن الدين والمبدأ والعقيدة ؟ أليس ثمة مشتركات في هذا المجتمع المطلوب ؟ طال الحديث ووصلنا في النهاية وكان المقترح مقدماً من قِبلي، قلت لهم: ألا ترون بأن المجتمع المطلوب من قبلنا جميعاً يجب أن يتصف بصفات، هي:

أولاً: العدالة. ثانياً: العلم والمعرفة. ثالثاً: الحرية. رابعاً: الفضيلة.

نظرتهم فإذا هم يتعرفون على العدالة، ويتعرفون على العلم والمعرفة، ويتعرفون على الحرية، إلا أن علامة استفهام كبيرة ارتسمت على وجوههم وهم يسمعون كلمة الفضيلة، فقالوا لي: ما الذي تعنيه بالفضيلة ؟ ما هذه الكلمة ؟ حاولت أن أنقل المعنى الذي يقبع في داخلي للمترجم، لكن المترجم أيضاً لم يستطع أن ينقل هذه الكلمة بجذورها إلى اللغة التي يتحدث بها هؤلاء، قلت لهم: سأفصِّل في هذه الصفة، وها أنذا أعرض عليكم اليوم ما كنت قد قلته لهؤلاء عن الفضيلة:

أتريدون لمجتمعنا أن يكون متحلياً بالفضيلة ؟ الجواب: نريد. وما أظن أن أحداً منا ولو كان مُقصراً يريد أن لا يتصف مجتمعه أو بيته أو أسرته أو حيه أو دولته أو قطره أو وطنه... بالفضيلة. لا أحد يريد ألا يتصف هؤلاء الذين ذكرناهم بالفضيلة، فما هي الفضيلة ؟

الفضيلة: مجموعة قيم حاولت حصرها، وقلت: إذا تحلى المجتمع بهذه القيم التي سأذكرها على مسامعكم اليوم، سيكون المجمع فاضلاً، أو بالأحرى سيكون المجتمع مجتمع فضيلة.

حصرت مجموعة القيم التي تشكل الفضيلة فوجدتها ما يلي:

 أولاً: إفشاء السلام. نريد أن يفشو السلام فيما بيننا، ونريد أن نفشي السلام فيما بيننا، نريد أن يكون الواحد منا سالماً من لسان مَن يعيش معه، سالماً من أذى لسان من يعيش معه، وسالماً من يد من يعيش معه، وسالماً من أذى كل ما يصدر عن جوارح هذا الذي يعيش معه، ولقد قلت لكم منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، إفشاء السلام لا يعني فقط أن أقول لكم السلام عليكم، ولكن إفشاء السلام يعني أن أعمل لتشعر أنت بالسلام مني، أن تعمل أنت لتشعرني بالسلام منك، هذا هو إفشاء السلام، ولذلك جاء في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) هذه هي القيمة الأولى ولا أريد أن أفصّل كثيراً فيها أو في كل قيمة، لأنني سآتي على كل القيم التي تشكل الفضيلة، والتي إذا ما طبقها مجتمع ما، ولو خمسين بالمئة سيكون هذا المجتمع مجتمعاً ذا فضيلة. إفشاء السلام على المعنى الذي ذكرنا.

ثانياً: الإحسان إلى الجار بشكل خاص. لأن التعاليم الإسلامية جاءت بذكر هذه القيمة مستقلة عن قيم أخرى يمكن أن تحتويها ويمكن أن تضمها، لكن جاء إفرازها لأن أهميتها كبيرة، الإحسان إلى الجار. البارحة حدثني رجل صديق وقريب، قال لي: أنا والحمد لله مسرور في بيتي من حيث سَعته وإشرافه، ومن حيث ومن حيث...، لكني أريد أن أنتقل من البيت، لماذا ؟ قال لي: بسبب جاره. الإحسان إلى الجار لو أننا قمنا باستقراء، لوجدنا كثيراً كهذا الذي حدثني البارحة، كثيراً منا هم مسرورون في منازلهم من حيث السعة، من حيث الإشراف، لكن الجار يُنغِّص عليهم عيشتهم، اسمعوا ما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في البخاري ومسلم: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه سيورثه) وقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جارُه بوائقَه) وليس المراد أنه لا يكمل إيمانه، بل ليس بمؤمن أصلاً، لأنه يخالف صراحةً ووضوحاً دعوة وقول النبي وحضِّ النبي في أن تكون محسناً مع جارك، صار الواحد منا يملُّ من كثرة ما يقول من أحاديث عظيمة، ومن من كثرة ما يلقى من قبول ضعيف بل معدوم من قبل الناس.

القيمة الثالثة: أسميتها حقوق المواصلة الحسنة. والتي جاءت في الحديث الشريف الذي يرويه البخاري ومسلم: (حق المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) فلو أن بينك وبين هذا الإنسان الذي يعيش معك إِحَن وبغضاء فعطس فشمِّته، فأنا أعتقد أنه عندها ستزول نصف الإحن بينكما، ولو أنه مرض فعدته لزالت البغضاء أو أكثرها.

القيمة الرابعة: السعي بالإصلاح بين المسلمين. ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾ المشكلة ولنكن واضحين، ومنبر الجمعة منبر تذكير للخطيب والمصلين، اليوم بدل أن نسعى للإصلاح بين أخوينا، وإذ بنا نعمق ما بين الأخوين من فساد، لذلك أتوجه إليكم وإلى إخوتنا في كل مكان وأعيد الكرة مرة بعد مرة، فأقول: أصلحوا بين أخويكم، في فلسطين وفي السودان في سورية في الأردن وفي حلب في حينا هنا وفي الحي هناك، فمهمتك أن تكون مصلحاً وهذا من مكونات الفضيلة، لا أن تكون مفسداً، لا أن تكون نماماً، لا أن تكون صاحب إفساد فيما بين المسلمين.

القيمة الخامسة: المكافأة على المعروف. يُسدي بعضكم إلى بعض معروفاً، يسدي الأب إلى ولده، والولد إلى أبيه، والجار إلى جاره، والتلميذ إلى معلمه، والمعلم إلى تلميذه، والتلميذ إلى زميله، فما عساك أن تقول يا من أُسدِي إليك المعروف ؟

عليك أن تكافئ من أسدى إليك المعروف بمعروف، ولذلك قال عليه وآله الصلاة والسلام: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) ولقد روى هذا الحديث البخاري في الأدب المفرد، زوجتك تقدم إليك معروفاً، وأنت تسكت وتصمت، وكأن الأمر ليس إلا من باب الواجب عليها، وعليها أن تقدم هذا وهي ساكتة هامدة جامدة، وأنت تملك وجهاً عبوساً قمطريراً، عليها أن تتحمل، وهذا واجبها، أنت تقوم بعمل، تقوم بجلب، بإنفاق، وزوجتك تسكت وتهمد ولا تشكرك، (لا يشكر الله من لا يشكر الناس).

القيمة السادسة :التواضع. والمشكلة أننا أبعد من أن نكون أصحاب تواضع، لأن التواضع صفة للكبير، صفة للقوي، صفة للمعطاء، وما أظن أن أغلبنا إلا صغير، وبالتالي فأين تواضعنا ؟ نحن لا نملك مقومات العظمة حتى نتواضع، فالتواضع من الكبير والعظيم، ولكن بالرغم من كل هذا فأنا أدعو نفسي وإياكم إلى التواضع وأنتم الذين تقرؤون قول الله عز وجل: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ لكننا لا نقول للجاهلين ولا للعالمين ولا للعاقلين سلاماً.

جرت مشاحنة وقد قرأت الخبر في جريدة الجماهير، جرت منذ أكثر من أربعة أيام مشاجرة، جرت بين مسلمين من بلد واحد، من حي واحد، من قرية واحدة، أسفرت المشاجرة عن قتيل وأربعة جرحى، وهذا رمز للقوة، أترون إلا أنهم عندما فعلوا ذلك أصبحوا في مسجلين في عداد الأقوياء، لا، لقد سُجلوا في عداد الحمقى والأغبياء والبعيدين عن الفضيلة وعن القيم، وبعيدين عن كل ما يمكن أن يتصف بالإنسانية أو يمكن أن يكون إنسانياً، فبئس العمل هذا.

القيمة السابعة :إدخال السرور على القلوب. نحن نحب أن ننقل الخبر المزعج، هذا ما نعيشه، إن سمعت بالخبر المزعج طرت لتحمل هذا الخبر المزعج إلى كل من تعرف، أما إذا حصلت  على خبر يسرني فستكتمه عني وسأكتمه عنك. فأدخل السرور على قلب جارك، صديقك، وكل من يلوذ بك. ولقد قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كما في الطبراني بسند حسن: (من لقي أخاه المسلم بما يحب ليَسُرّه بذلك، سَرَّه الله عز وجل يوم القيامة) نحن لا نريد أن يسر بعضنا بعضاً، ولا نريد أن ندخل السرور على قلوب بعضنا، وما أدري فقد أصبحنا اليوم أُسارى مادة قاتلة وأفكار لا نريد من ورائها إلا القتل والتقهقر والتخلف والقضاء على كل ما يمكن أن نفتخر به وحدث في تاريخنا، وللأسف الشديد.

القيمة الثامنة: العطاء والجود. والحمد لله أن البخل قد استحكم في بلادنا، فلم يعد الإنسان يطيق دعوة أخيه إلى عشاء، ولن يعد الإنسان يطيق دعوة جاره على طعام، ولم يعد الإنسان يطيق أن يتصدق على قريب له محتاج، ولم يعد الإنسان يطيق أن يقدم من عافيته معونة ومساعدة لمن يحتاجها من بني قومه، وهذا سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك كما جاء في البخاري ومسلم: (أنفق، أنفق ينفق عليك) والإنفاق مادة ومعنى. الله لا يبقى تحت مِنتك، أنفق ينفق عليك، فأين هذا الاستعداد للإنفاق والعطاء ؟ الفقراء يذهبون هنا وهناك، كنا نقول يا هؤلاء لا تسألوا الناس إلحافاً، فقال لنا الفقراء لن نسأل الناس إلحافاً، ولكن عَهِدنا أن الأغنياء يبحثون عن الذين لا يسألون الناس إلحافاً، أما اليوم فالأغنياء لا يبحثون عن هؤلاء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، والذين تعرفهم بسيماهم، والذين يتمتعون بالتمانع والتمنع، لكن الأغنياء لا يسألون، هؤلاء لا يسألون الناس إلحافاً، والأغنياء لا يبحثون، ويا أيها المجتمع عليك أن تقضي على الفقر، لا يا إخوتي، الأغنياء ملتهون بتجاراتهم، وأصحاب المسؤولية من مدراء ووزراء هم على لهوٍ بسمؤولياتهم التي تمسهم شخصياً لكنهم لا يسألون عن الحاجات التي أُشبعت وعمقت في مجتمعاتنا، وبالتالي تطالبون الفقير أن لا يسأل الناس إلحافاً، ولا تطالبون الغني بأن يبحث عن الفقراء، لذلك أقول: لا تحدثوني ولا يقولنَّ أحدكم بأن مجتمعنا مجتمع كرم، لا، انظروا بيوتاتكم، وانظروا عطاءاتكم لأبناءكم فقط، ولكنكم إن تقدمون بعضاً من العطاء أراكم أصحاب ضن، وإنكم على إعطاء غير من حولكم ضنينون.

القيمة التاسعة: الإيثار. إن كان لا عطاء فكيف يكون الإيثار ؟! ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ ليس ثمة إيثار، لا يمكنني أن أتحدث عن هذه القيمة وقد تحدثت عن بخل مستفحل في مجتمعنا، وبالتالي أين العطاء ؟ أين القيام بواجب الزكاة حتى أتحدث عن إيثار ؟ أين القيام بواجب النفقة ؟ (كفى بالمرء إثماً أن يُضيّع من يعول) لكنني مضطر للحديث عن الإيثار من باب التنظير فقط، وإن كنت أعلم أن هذه القيمة لم تعد قائمة ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ الواحد كان – هكذا نقول – ولا نفعل معشار ما كانوا يصنعون.

القيمة الأخيرة: صلة الأرحام. ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ أين صلة الأرحام ؟ صلة الأرحام معدومة، وبالتالي أسأل: لي عمة، أم، أب... لكنني بعيد عنه، لا أصله إلا أنني أتصل به بالهاتف بين الفينة والأخرى، فهل قمت بصلة الأرحام ؟ يريد مني أن أقول له: نِعمَ ما تفعل، باركَ الله بك، وأقيسه على من هو أسوء منه لأجعل منه عظيماً وصاحب فضيلة. كل منا يعرف كيف يصل رحمه، لكنني أذكركم بمجمل القيمة، الله عز وجل قال للرحم في الحديث القدسي وأخذ العهد على ذاته (من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته) يؤلمني أن أتحدث وألا أرى آثاراً نفسية استقبالية متفاعلة وأنا أقول هذا الحديث، وأنا أتحدث عن نفسي ولا أتحدث عنكم، يؤسفني أننا أصبحنا نردد نصوصاً لكننا نجد حيال النصوص لصوصاً، نتلصص على النص ونزعم أننا بمجرد ترديد النص أصبحنا من أمة النص، ليست القضية قضية حفظ، القضية قضية عمل وتطبيق، قضية حرية، قضية معرفة، قضية عدالة، قضية فضيلة ذكرت لكم مقوماتها.

آمل وأسأل الله أن يوفقنا لتحقيق الفضيلة في مجتمعنا لأنني أقول بأن المجتمعات الغربية فيما يتعلق بالعدالة سبقتنا بأشواط وأشواط، لأن المجتمعات الغربية فيما يخص العلم والمعرفة سبقتنا أشواطاً وأشواطاً، لأن المجتمعات الغربية فيما يتعلق بالحرية سبقتنا أشواطاً وأشواطاً. بقي لنا الفضيلة وها هي المجتمعات الغربية تحاول أن تسبقنا فيما يخص الفضيلة، فالجار هناك ما أعتقد أنه يشكو من سوءٍ يصدر عن جاره ولو كان المسؤولون هناك هم الذين يقومون هذا الأمر ، لكن العلاقة بين الجار والجار قائمة على احترام متبادل، قد يكون هذا الاحترام مفروضاً لكنه احترام، كادت المجتمعات الغربية أن تسبقنا فيما يخص الفضيلة، أنا أقول كادت وقد أعتقد في داخلي أنها سبقتنا، لكنني لا أريد أن أقول سبقتنا حتى نحافظ على هذه الصفة من صفات المجتمع المنشود، لأنني قلت للوفد آنذاك: الحمد لله أننا نتمتع بالفضيلة ولا تتمتعون بها. لكنني قلت بيني وبين نفسي: أرجو ألا تدخلوا أسواقنا، وألا تدخلوا مدارسنا، وألا تدخلوا مساجدنا حتى، وألا تدخلوا شوارعنا، لأنكم ستفاجئون، هذا ما حدثت به نفسي وقلت أرجو الله ألا يدخلوا هذه الأماكن حتى لا يلقوا ما يعاكس هذا الذي قلته عن مجتمعي بأن مجتمعي مجتمع فضيلة.

تذكرة لا أكثر ولا أقل، أتريدون أن نتصف بالفضيلة ؟ هذه مقومات الفضيلة، آمل أن نعاير أنفسنا عليها فإن كنا على جانب ولو بسيط منها فأسأل الله أن يوفقنا للزيادة، وإن كنا مجانبين لها فأسأل الله أن يجعلنا متوجهين إليها.

اللهم إني أسألك بحق أسمائك الحسنى أن توفقنا لتحقيق الصفات التي ذكرناها من حرية ومعرفة وعلم وعدالة وفضيلة في مجتمعنا، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 6/7/2007

التعليقات

شاركنا بتعليق