آخر تحديث: السبت 02 تشرين الثاني 2024      
تابعنا على :  

خطبة الجمعة

   
مقومات الأمة من منظور إسلامي

مقومات الأمة من منظور إسلامي

تاريخ الإضافة: 2003/04/25 | عدد المشاهدات: 4963

أما بعد ، أيها الإخوة المؤمنون :
يُذكر في كتب الحديث حديثٌ اختلف علماء الحديث في صحته ، ولكن المحققين منهم أثبتوا حكمهم بالصحة عليه ، وأكدوا ذلك ، هذا الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " من عرف نفسه فقد عرف ربه " وقد أفرد الإمام السيوطي مؤلفاً خاصاً حول هذا الحديث الشريف ، سمَّاه : " القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه " . وأنا أطرح من خلال هذا الحديث سؤالاً على نفسي فأقول : هل عرفنا أنفسنا ؟! لا أريد أن أجيب ولا أريدكم أن تجيبوا ، ولكنني أتابع . يجب علينا أن نعرف أنفسنا ، ولكن ما حدود النفس ؟ ما حدود أنفسنا التي يجب أن تَطََالها معرفتنا ؟ هل أعرف نفسي فقط أنا ، هل أعرف حاجاتي ورغباتي ووصفي وما يريده مني شعوري ، أم يجب أن أتعرَّف زيادة على ذلك على العلاقات التي تنبثق مني نحو الآخر ، لأن هذه العلاقات والخيوط نابعة مني وبالتالي تشكل جزءاً مني وقسماً مني ، وبالتالي يجب أن تطالها معرفتي وأكون تحت من عرف نفسه فقد عرف ربه .
إذا سئلتُ عن علاقتي بمن يجاورني في سورية قلت عنه مواطن مثلي ، وإن سئلت عن إنسان يعيش معي في الوطن العربي قلت إنه مواطن على مستوى الوطن العربي ، إذا سئلت عن علاقتي مع المسلم الذي يعيش في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا ؟ هذا مواطن على مستوى سورية ، وذاك على مستوى الوطن العربي أما ذاك المسلم الذي يعيش في أفغانستان أو باكستان هو مواطن على مستوى الوطن الإسلامي باعتباره فرداً في وطنٍ أو بلد إسلامي ، فهو مواطني ضمن الوطن الإسلامي ، لأننا نتحدث جغرافياً عن وطن إقليمي وعن وطن عربي وعن وطن إسلامي ، لكن ما العلاقة التي تربطني بذاك المسلم الذي يعيش في بلد غير إسلامي أو غير عربي ، فما هذه العلاقة ؟ من هو ؟ الجواب الطبيعي : أن الرابطة التي تربطني بهذا المسلم الذي يعيش في فرنسا أو في أمريكا أنه فرد في أمتي ، وهنا موطن الشاهد ، وأنا فرد في أمته ، وعلينا أن ندرك المساحات الجماعية ، أن ندرك ماذا تعنيه كلمة الدولة ، كلمة الوطن ، كلمة الأمة ، وكل ذلك من ضرورات معرفة النفس ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه . وبالتالي : إذا عرفتُ ماذا تعنيه كلمة الوطن والدولة والأمة عند ذلك أبحث عن العلاقة التي تشكل واجباً وحقاً ، عن العلاقة التي تربطني بهذا الذي يعيش معي في الدولة ، وبذاك الذي يعيش معي في الوطن ، وبذاك الذي يرتبط معي تحت اسم الأمة ، من هنا وجدت من المناسب أن أتحدث عن الأمة بشيء من الاختصار ، وما تعنيه كلمة الأمة التي نذكرها مراراً وتكراراً والتي نتباهى بذكرها ونقول عنها : إنها مُفرَزٌ إسلامي واسع له من المقومات في المنظور الإسلامي ما لا يمكن أن يكون له من المقومات في منظور آخر ، فما مقومات الأمة في المنظور الإسلامي ؟
الأمة تعني أموراً – بالنسبة لي – خمساً :
الأمر الأول : العقيدة الواحدة المشتركة : فإذا كان هذا الذي يعيش في أقاصي الدنيا يعتقد الذي أعتقد ، عقيدته عقيدة التوحيد ، وعقيدتي عقيدة التوحيد ، فقد اشترك معي في مقوِّمٍ من مقومات الأمة ، وبالتالي عليَّ أن أبحث عن الحقوق والواجبات المتبادلة لكي أطالبه بواجبه ويطالبني بواجبي ، وعقيدتنا بكل بساطة هي : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى ، هذه هي عقيدتنا ، وأركان الإيمان التي تشكل العقيدة . المقوم الأول من مقومات الأمة التي ننتسب إليها والتي هي بمثابة جواز أو بمثابة هوية إذا ما أظهرناها فإننا نعلن من خلالها انتسابنا الصَّدوق للأمة الإسلامية .
المقوم الثاني : العبادة الصِّرفة : أي من صلَّى صلاتنا ، وتوجَّه إلى قبلتنا ، وأدَّى زكاته ، وصام صيامنا ، وحج حجنا فقد استكمل المقوم الثاني من مقومات الأمة ، أياً كان وفي أي بقعة كان ، وهو في مشروع حيازته لكل مقومات الأمة ، ولذلك أقول تعليقاً : يجب أن لا نحكم على إنسان ما بأنه خارج الأمة ، أو بأنه ليس من الأمة ، أن لا ننفي أحداً من الأمة إلا بعد أن نعرفه وبعد أن نعرف أنفسنا ، وإلا إذا كان الأمر عشوائياً فلننظر إلى واقعنا العشوائي كم أخرجنا من الأمة من لم يخرج ، من لا يجوز إخراجه ، وكم أدخلنا في الأمة من لا يجوز إدخاله بناء على عدم وضوح في رؤيتنا لجسم الأمة ، لكينونة الأمة ، لحقيقة الأمة ، كم طغت الدولة على الأمة فقطعنا أوصال الأمة ، كم طغى الوطن على الأمة فقطعنا نسيج الأمة ، كم قدمنا إلى رحاب الأمة من لا يستحق أن يدخل في رحابها وكم أخرجنا ، والأمر إذا اقتضى التمثيل أو التجسيد أو التشخيص فلنا حديث مفصَّل في أمكنة تحتمل الحوار ، لكنني هنا أرسل قواعد وأنتم أقدر على تشخيصها أو على الإتيان بأمثلة من أجل توضيحها وتبيانها .
المقوم الثالث : الالتزام بأحكام الشريعة في سائر شؤون الحياة : الشريعة التي أتتنا من الله ، وهذا الالتزام مبدئي ، قد يقصِّر من يعلن الالتزام المبدئي ، قد يقصر بالفعل ، لكنه بتقصيره لا يخرج من الأمة ، ويبقى داخل الأمة ، المهم أن يعلن التزامه المبدئي يقول : أنا أدين بالشريعة الآتية من الله لتكون أحكامي التي أتبعها ، فهو بهذا الإعلان يمتلك المقوم الثالث من مقومات الأمة حتى ولو قصر بالعمل ، لأن التقصير لا يخرج المقصر من دائرة الأمة ، وإنما يبقيه فيها ، ولكن علينا أن نتجه إلى هذا الفرد ليكون فرداً أكثر سلامة في جسم الأمة حتى لا يكون موضع ضعف في جسم الأمة ، وبالتالي يكون مستعداً لاستقبال جراثيم الإفساد والإهلاك . من أعلن التزامه بأحكام الله فعلينا أن نقبله في هذه الأمة .
المقوم الرابع : المنهل التاريخي الواحد : من ينتسب لتاريخ يؤمن بالله ، يلتزم بأحكام الله ، يعلن ولاءه لله ، فهذا الانتساب مقوم من مقومات الأمة ، إذا انتسبت للأمة من خلال التاريخ ، من خلال المحضَن ، وقد قلت لكم منذ عشر سنوات : إن فرعون لا يمكن أن يكون من تاريخنا لكن امرأة فرعون من تاريخنا ، إن نوح عليه السلام من تاريخنا ، لكن ابن نوح ليس من تاريخنا ، إن الخنساء يوم رثت أخاها وبكت عليه ولطمت خدودها لم تكن في تلك اللحظة من تاريخنا ، لكنها حينما رثت أبناءها الأربع رثاء إيمانياً إسلامياً فقالت حينما أخبرت باستشهادهم : " الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم ، وأرجو الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته " كانت من تاريخنا ، إن أبا بكر من تاريخنا ، لكن أبا جهل ليس من تاريخنا ، لأن التاريخ الذي نعتبر الانتساب إليه مقوم من مقومات الأمة هو ذاك التاريخ الذي يعتقد بالله والذي يعبد الله والذي يلتزم أحكام الشريعة الآتية من الله ، هذا هو التاريخ الذي يشكل مقوماً رابعاً من مقومات الأمة .
أما المقوم الخامس فهو : اللغة العربية الإسلامية ، ولعلكم تستغربون لماذا أضيف على اللغة العربية صفة الإسلامية ؟ لأنني أقول : عندما تبنى الإسلام اللغة العربية صارت هذه اللغة تنتسب للإسلام ، أصبحت عربية إسلامية ، لأن الإسلام مَدَّ اللغة العربية بمعانٍ لم تكن لتدلَّ عليها يوم كانت بمعزل عن الإسلام ، مدها بمعاني الجهاد ، التي لم تكن كلمة الجهاد قبل الإسلام لتدل على المعاني التي دلت عليها في الإسلام ، أعطاها أبعاداً معنوياً إنسانية تتناسب والإنسان ، تتناسب والفطرة ، خذ مثلاً كلمة الصلاة وكلمة الجهاد وكلمة الدعاء وكلمة التوجُّه ، وحتى الفضائل ، خذ كلمة الصدق ، خذ كلمة الظلم ، عبأها الإسلام بمعان إضافية على ما كانت تدل عليه وربما كانت هذه الإضافات أكثر من المعاني التي كانت فيها في هذه المصطلحات .
وهنا أقول لأفراد الأمة على أقل تقدير لمن يقول عن نفسه – وحسب قاعدة : من فمك أدينك – ولأضرب مثالاً على ذلك : أقرأ إعلاناً عن محاضرة فلان في سورية ، في الأردن ، في الجزائر ... الخ فلان يتحدث عن مصطلح العراق ، هذا جميل ، وآخر يتحدث عن اللغة العربية السامية ، وهذا جميل ، وآخر يتحدث عن الآثار العربية وهذا جميل ، ورابع يتحدث عن عشق الأدب العربي ، عشق اللغة العربية ، وهذا جميل ، وخامس يتحدث عن الجبال العربية وشموخها وهذا جميل ، ولكن أليس يا أفراد هذه الأمة ، أليس في لغتنا كلمات يجب أن نتوجه بالحديث عنها من قبل المختصين ! يا أهل الفلسفة لماذا تتحدثون عن الكون والحرية وتعتبرون الحديث عن ذلك - ونحن نعتبر ذلك أيضاً معكم – لماذا تعتبرون الحديث عن الحرية حديثاً مستفيضاً ، حديث عشاق ، حتى إذا ما أتيتم إلى مفردة أخرى في اللغة العربية هي الله لم نرَ أحداً منكم يتحدث عنها ، واعتبرتم الحديث عنها انتماء لفئة تعتدي عليكم أحياناً . أنا أسأل عن السر ، أسأل عن السبب : لماذا يتحدث من يتحدث عن العراق الحبيب ولا يتحدث هو نفسه وهو من هنا من وطننا العربي لماذا لا يتحدث في جماعته الذين لا يَتَّسِمون بالتدين لكنهم يقولون عن أنفسهم بأنهم ينتسبون للأمة الإسلامية وللوطن الإسلامي والوطن العربي يتحدثون عن العراق المحبوب وهم أنفسهم لا يتحدثون عن الرسول محمد المحبوب ، ويعتبرون الحديث عن محمد المحبوب حديثاً حرجاً ، فلا يمكن أن يتحدث هذا الرجل عن النبي في جماعته ( في المركز الثقافي أو في الصالة الفلانية ... الخ ) لماذا ونحن أفراد في هذه الأمة ، فلماذا لا تلامسون كل في ميدانه واختصاصه لماذا لا تلامسون كل المصطلحات . أنا أعترف أننا قصَّرنا نحن الذين نتحدث بالإسلام قصرنا في حديثنا عن الوطن والأرض ، ولكن أما قصَّرتم أنتم ؟! يا من تنسبون أنفسكم للأمة لكنكم تضعون أيديكم لتخفوا بعض مصطلحاتها وكلماتها وتتحدثوا عن مصطلحات أخرى بحرية مطلقة وبسماحة مطلقة ، وهذا لا يجوز . أرأيتم في أننا لا نعرف أنفسنا ، ولو أننا عرفنا أنفسنا لعرفنا امتداداتنا عبر الوطن والدولة والأمة ، ولعرفنا الذين معنا والذين يجب أن نقيم العلاقات معهم على أساس من معرفة واجب ومعرفة حق . أرأيتم في أننا مقصرون ؟! قلت هذا لكم من على هذا المنبر وليس هذا من باب الاعتراض السلبي وإنما من باب النصيحة لنفسي وإخواني وأفراد أمتي : لماذا نرى في وسائل الإعلام على سبيل المثال لغة عربية مشلولة ليس فيها سمة إسلامية ، في بلادنا العربية ، لماذا نتحرج من أن نبدأ بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " على سبيل المثال ، لماذا نتحرج في حديثنا عن أبي حنيفة النعمان ، ويحلو لبعضنا من نفس الاختصاص أن يتحدث عن أبي نواس على سبيل المثال ولو أنه تحدث عن الأدب عند أبي حنيفة ، عن الأدب عند الشافعي ، لماذا يتحرج أدباؤنا الذين ينتسبون لاتحادات كثيرة يتحرجون لا سيما إذا أظهرتهم على الشاشات يتحرجون في الحديث عن الشافعي ، وكأن الحديث عن الشافعي سمة تأخر ، لكنهم إذا حدثوك عن فلان الذي لا نعرفه ، بل لا يعرفه كثير منا ، إذا ما حدثوك عن أبي نواس ، عن امرئ القيس جالوا وصالوا ، أما أن يتحدثوا هم عن الشافعي ، عن الفقه ، عن الصلاة ، حتى ولو لم يصلوا ، قلنا لهم سلفاً : يكفيكم الإعلان بالالتزام ، وإذا ما قصرتم في أداء الصلاة فلا زلتم في الأمة ولا تخرجون عنها ، ما بالنا نلح على أن تكونوا في الأمة وتلحون على أن تخرجوا منها من غير ثمن تقبضونه سوى أنكم تخافون الوهم وتخافون أن توسموا بكلمات لا أصل لها ولا واقع لها في عالمنا ، بكلمات الرجعية والتخلف والتقهقر . أناشدكم الله : أن يمعن الواحد منا في مقومات الأمة ، في العقيدة والعبادة والالتزام والتاريخ واللغة العربية ، وأناشدكم الله أن تتعرفوا على واجباتكم تجاه أفراد الأمة ، وأن تتعرفوا على حقوق أفراد الأمة عليكم ، أريد أن نتعرف على واجباتنا تجاه أفراد الأمة ، هنالك مسلم في أقاصي الدنيا هو فرد في الأمة التي تنتسب إليها ، ما بالك لا تترك مجالاً في داخلك من أجل أن يحل فيه وهو بعيد عنك كل البعد ، لا تقترب منه ، وبعد ذلك تتكلم بالفم الملآن وتقول : ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ وتقول هذا أخي ، ذاك الذي يسكن في أقاصي الدنيا ، أين حقوق الأخوة من أجل أن تقدمها لهذا الأخ الذي تعترف به منسوباً لهذه الأمة ، فلنمعن التفكير ولنعمق التفكير في مثل هذه المفردات لنصل إلى معرفة النفس ، ولننطلق من معرفة النفس فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه ، ومن لم يعرف امتداداته وسيبقى يوكل الأمر للناس في أن يُعرِّفوه امتداداته سيبقى جاهلاً بربه ، وجاهلاً بنفسه ، وجاهلاً بواجباته ، وجاهلاً بحقوقه ، وسيبقى يتخبط خبط عشواء لا قيمة لكل تصرفاته ، لأنه لا يعرف نفسه حتى يعرف شبيهه ونظيره ومن يشترك معه ، إذا كنت لا أعرف نفسي فكيف أعرف مثيلي ونظيري ؟!
يا أبناء الأمة الإسلامية : ابحثوا عن هذا العنوان الذي ضاع منا ، ضاع من داخلنا ، نحن ندعي أننا أفراد أمة ولكن أين هذه الأمة ، أين حقيقتها وواقعها المجسد . أخشى ما أخشاه أن تكون الأمة كلمة اعتبرها التاريخ في حيز الغيب ولا علاقة لنا به .
أسألك اللهم أن توفقنا لنتعرف على أنفسنا ، ولنعرف واجباتنا تجاه أبناء وطننا ، وأبناء دولتنا ، وأبناء أمتنا ، أسألك اللهم أن توفقنا لنتعرف على الأمة ، على الدولة ، على الوطن ، لنتعرف على الذي يريد أن يخدش الأمة ويجرح الوطن ويدمي الدولة حتى نقاتله لأنه ظالم ، ولا نقاتل إلا الظالم على أساس من مظلومية وقعت علينا ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ﴾ اللهم انصر إخواننا عبر الدولة والوطن والأمة ، اللهم إننا نسألك أن تجعلنا من المتيقظين لمعرفة أفراد أمتنا لنقوم بواجباتنا نحوهم ، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله

التعليقات

شاركنا بتعليق