آخر تحديث: الإثنين 15 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
حكمة الحكم من الحج

حكمة الحكم من الحج

تاريخ الإضافة: 2007/12/14 | عدد المشاهدات: 3327

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

لعل الحديث عن الحج هو الحديث الذي يجب أن يكون في مثل هذه الأيام، ولعل الحديث عن عشر ذي الحجة هو الذي يجب أن يكون في مثل هذه الأيام، لكننا ونحن نعيش أيام الحج وذي الحجة، لا بد وأن نأتي على حكمة الحكم من الحج، فما حكمة الحكم من الحج ؟

حكمة الحكم تأكيد على عهدٍ مع الله عز وجل، مضمونه عبودية واستسلام بقناعة وخضوع وافتقار وقنوت وطاعة. ألا ترون إلى هذا الذي يذهب إلى هناك يطوف حول الكعبة، والطواف تعبير عن التزام، فأنت تطوف حول البيت سبعة أشواط لا تغادره ولا تندّ عنه ولا تبتعد عنه، فهذا يعني أنك ملتزم وثابت على علاقتك بربك، والعلاقة تعني أن الربّ رب، وأن العبد عبد، وأن الله هو المعبود، وأنك أنت العابد العبد، ثم بعد ذلك عندما يسعى الحاج، فما السعي إلا تعبير عن الذهاب شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، من أجل أن تبلغ هؤلاء في الجهات الأربع رسالة ربك، فرسالة ربك خيرة، ثم بعد ذلك عندما تقول - وهذا ما يجب أن تتحلى به سلوكاً – (لبيك اللهم لبيك)، والإحرام تجرد عن شخصية لا تليق بك، تجرد عن اتباع الهوى، ابتعاد عن اتباع النزوات والهفوات، نأيٌ بنفسك عن أن تكون عبداً لغير الله عز وجل، فالإحرام تجرد عما وعمن سوى الله، والوقوف بعرفة من أجل أن تكون أنت وربك، داعياً إياه من غيرما واسطة، ها أنت وربك فارفع يديك إلى ربك وقل ما تريد أن تقول.

لا أريد أن أفصّل لأني أريد أن أركز في ذهني وفي أذهانكم أن حكمة الحج تأكيد على عهد العبودية لله، تأكيد على الموثق والميثاق الذي واثقته مع الله يوم قلت: (لبيك اللهم لبيك)، ويوم قلت: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، يوم دخلت هذا الإسلام، فالإسلام بابه الشهادة، والشهادة تعني ميثاقاً، والميثاق أجدر أن تحافظ عليه وأن تؤكد عليه.

الحج تأكيد على العهد الذي أبرمته مع ربك على عهدٍ مفاده ومحتواه: عبودية لله، طاعة لله، خضوع لله، استسلام عن قناعة لله. هذه هي حكمة الحكم من الحج، لكن العهد لم ينته هنا وهذا ما أريد أن أؤكد عليه، فالعهد له اتجاهان، الأول: ما قلته وأكدت عليه: عهد مع الله على عبودية له وخضوع وعبادة، والثاني: فمتجه إلى هذا الذي بجانبك، الذي يحج معك، الذي يطوف ويسعى معك. هذا الذي تشكل أنت وهو هذا الزحام، وتفرح إذ يكون الأمر زحاماً لتباهي بهذا الناس جميعاً. كنت أقول بيني وبين نفسي: لو أن الحج في سنة من السنوات لم يذهب إليه إلا عدد من العشرات أو المئات، أعتقد أنك أيها المسلم القابع في سورية أو في كينيا أو في الصين أو... أعتقد أنك عندما سترى منظر الكعبة وقد طاف حولها أيام الحج عشرات أو مئات أعتقد أنك ستبتئس، وستشعر بشيء من الخجل بينك وبين نفسك، كيف ستقول للناس الآخرين عن هذا العدد القليل ؟

أعود فأذكر أن الحج يذكرك بعهدين وقد أبرمتهما، الأول مع الله، والثاني مع هذا الذي بجانبك، يطوف معك، مع أخيك، أو مع الذي يسعى معك، مع الذي تقف معه على عرفات، مع الإنسان الذي تجلس معه في منى، مع الإنسان الذي يرجم كما ترجم الجمرات، مع الإنسان الذي يفعل مثل فعلك، هو يماثلك ولا أقول يشابهك، فما العهد الذي يجب أن تؤكد إبرامه معه ؟ إنه عهد الأخوة، ولا أريد أن أوسّع نطاق الحديث، ولكن إن مما يحز في النفس أن كثيراً من الحجاج، ولا أتكلم عن كلهم، لم يعد يخطر ببالهم أن يؤكدوا عهد الأخوة مع من يحج معهم، فهذا الذي يحجون معه ويحج معهم غريب عنهم، ربما هدروا دمه وهو يمشي معهم كما يمشون ويسير معهم كما يسيرون، ربما اتهموه بالمروق والكفر وهو يفعل الذي يفعلون، أريد من الحجاج ومن الذين ينظرون الحجاج، أريد منا جميعاً أن نقول للناس وأن نقول لأنفسنا بأن حكمة الحج تقتضي أن نتوجه إلى أخينا بتأكيد العهد معه على الأخوة، والأخوة تعني بكل بساطة ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) فهل أنت تحرِّم على نفسك دم المسلم الذي يحج معك ويقول الشهادتين ويصلي ويصوم ؟! (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) فهل أنت ترعى هذا العهد مع أخيك المسلم الذي قد يختلف عنك في المذهب الفقهي أو في المذهب الصوفي أو في المذهب السلفي أو في المذهب الكلامي فهل ترعى دمه ؟ إن قلت نعم فإني أقول لك إن كثيراً منا اليوم لا يرعون هذا الحق، وإلا حدثني بربك عن تفسيراتٍ لما يحدث في العراق، حدثني بربك عن تفسيرات لما يحدث في الجزائر، حدثني بربك عن أناسٍ مسلمين يقتلون بيد أناس مسلمين بينهم عهد، ذهب وفد منا، هم الحجاج من أجل أن يؤكدوا هذا العهد مع إخوانهم الحجاج الآخرين الذين يمثلون بدورهم المسلمين الآخرين، فما الذي حصل حتى استهنا بدماء بعضنا، حتى أصبح الدم المسلم رخيصاً على المسلم، ما الذي حصل حتى أصبح الدم المسلم مهدوراً بأقل الأثمان، ما الذي حصل حتى أصبح الدم المسلم مسفوكاً لأتفه الأسباب ؟ إن كنت أتحدث عن دماء تسفك في العراق وفي الجزائر وفي أمكنة أخرى، فإني أتحدث أيضاً عن أعراض لنا تنتهك من قبلنا هنا في سورية، في مصر، في الأردن، في أفغانستان، في كل البلاد العربية والإسلامية، (كل المسلم على المسلم حرام) لم يعد هذا شعارنا.

والحجاج منا ذهبوا من أجل أن يؤكدوا لله ولأنفسهم عهدهم مع الله على العبودية وعهدهم مع المسلمين على حفظ الدم والمال، كل المسلم على المسلم حرام لم يعد شعارنا لم يعد عنواننا وإنما أصبح العنوان وللأسف الشديد كل المسلم على المسلم حلال ولأتفه الأسباب، سيدنا محمد قائدنا الذي ننتمي إليه جميعاً على اختلاف مذاهبنا، لم يفرِّق بين مسلم وآخر في ضرورة صيانة دمه وعرضه وماله لكننا نقول بلسان حالنا: يا رسول الله أنت لا تعلم الذي نعلم، أنت تقول كل المسلم على المسلم حرام ونحن نقول مصححين هكذا نقول بلسان حالنا وبوقاحة ونقول بعض المسلمين على المسلمين حرام، أما أن نقول كما قلت فهذا لا يمكن أن نقوله وإذا قلناه فلا يمكن أن نفعله ولا أن نلتزم به (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) هكذا قال هذا الذي يذهب الحجاج لزيارته، هكذا قال هذا الشفيع المشفع، سيدي رسول الله: معذرة فالأمة اليوم - ولا أتكلم عن كلها بل عن كثيرها - ضاعت وأضاعت، تاهت وتوهت، جعلت من نفسها مقاتلة لنفسها، جعلت من نفسها عدوة لنفسها، بأسها بينها شديد، دماؤها رخيصة عليها، عرضها منتهك من قبلها، هي تنتهك عرضها، وأقول هذا من أجل ألا نلوم عدواً لدوداً يتربص بنا الدوائر يقتل منا في كل يوم اثنين أو ثلاثة أو... لا أقول من أجل ألا نلومه، وأرجو ألا نفهم الأمر على ظاهره، ولكن أقول هناك من يُلام من قبلنا، علينا أن نلوم أنفسنا، وإلا فعدونا معروف بعداوته، وبئس العدو عدونا، عدونا قتل الأنبياء، عدونا هو الذي يجب أن نوفر الدماء التي فيما بيننا من أجل أن تكون رأس مالنا ونحن نقاتل عدونا اللدود الذي يحتل أرضنا، ويجثم على صدورنا، والذي يُسقط الشهيد تلو الشهيد في غزتنا، وبغداننا، وسوداننا، في أفغانستاننا، في باكستاننا، في كل مكان من أراضينا. هذا شأنه وعلينا أن نقاتله ولكن: ﴿إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص﴾ فهل نحن بنيان مرصوص أم أننا بنيان متهدم متبعثر لا قيمة له، أحجاره منخورة، الصلات بين الأحجار مفقودة، أحجاره ضعفت حتى الموت، هانت واستهين بها، القضية واضحة. إن كان هذا الأمر سبيقى فيما بيننا فلا نصر لنا، والعبادات التي نقوم بها لا تعدو أن تكون شكلية ليس لها جذور، ولن يكون لها يوم القيامة ظهور، ولن يكون لها في ميزان الحسنات وجود أو تثقيل، إن كنا سنبقى على ذلك من استهانة بأنفسنا وأعراضنا وأموالنا ودمائنا، إن كان الدم سبيقى رخيصاً وسنهدره بأيدينا فتوقعوا الخسارات الأكبر، توقعوا الإهانات الأكثر، توقعوا أكثر مما أنتم عليه، توقعوا أن يُدخل عليكم في بيوتاتكم، وما هؤلاء الذين يُدخل عليهم في بيوتهم من إخوان لنا في الدم والدين والجغرافيا والتاريخ عنا ببعيدين، هل يروق لكم أن تروا أحداً من إخوتكم في الصومال في مقديشو وقد وضع على الأرض والدم يسيل منه، هل يروق لكم هذا أم أننا تعودنا أن نشاهد القتلى من دون أن نتأثر وكأن حيواناً كُتب عليه أن يقتل حفظاً للبيئة.

هل قررنا أن نفكر بجدية فيما يتعلق بهذا الشأن ؟

كنت أقلب اليوم بعض كتب الحديث فمررت على حديثين أو ثلاثة، نحن أمة ترعى العهد هكذا يجب أن نكون، يؤسفني عندما أقول نحن أمة ترعى العهد أن لا أعني بالأمة الأمة اليوم، ولكنني أعني أمة محمد يوم كان محمد بين أصحابه رضي الله عنهم.

عن عبد الله بن عباس قال: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح فذكرت ذلك للنبي -امرأة أجارت مشركاً قالت لا تلمسوا هذا لا تؤذوا هذا- فقال النبي: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ) قد آمنا من أمنت يا أم هانئ.

أم هانئ تجير رجلاً من المشركين ونحن اليوم، ألا تجيرنا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ فما بالنا لا نتعرف على هذا الجوار بظل لا إله إلا الله محمد رسول الله.

كنت منذ يومين أستمع لحديثٍ ديني لرجل، ثقوا بالله أنني سأنقل الكلام الذي سمعته منه، حزنت، وكاد الحزن يخنقني، هذا الرجل يتحدث عن رأي ويتبناه، يقول هذا الرأي بضرورة النقاب، غطاء وجه المرأة، وعندما يتحدث عن أولئك المسلمين، عن الفقهاء الذين لا يقولون بأن الوجه عورة، والذين لا يقولون بالنقاب، كان يقول بالحرف الواحد: (أقسم بالله، أقسم بالله، أقسم بالله، أن الذي أعطى الشهادة الابتدائية لهذا الشيخ الذي يقول بأن النقاب ليس وارداً أو ليس واجباً هو ظالم) أقسمَ ثلاث مرات !! يا أخي كيف تقول هذا الكلام بالله عليك، أهذا كلام منصف ؟! أهذا كلام عاقل ؟! أهذا كلام داعية ؟! أهذا كلام إنسان يريد أن يُخلِّق الناس بالأخلاق الحسنة ؟! عندما يسمع إنسان ما بسيط عادي مثل هذا الكلام من شيخ داعية يتكلم على التلفاز سيقف حيال الشيخ موقف المحارب، وربما وصل به الأمر إلى أن يقتل هذا الشيخ نتيجة لكلام الداعية الذي يتحدث عن الآخرين منتهكاً أعراضهم، هادراً دمهم، قد يقول إنني لم أهدر دمهم. لكنك تكلم ناساً كثيرين، تخاطب ملايين، ألا تخشى من أن يقوم واحد فيغلي الدم الفاسد في رأسه لينقضَّ على الذي تتحدث عنه بهذه السخرية فيقتله ؟ وهذا ما يحدث.

يا أيها الدعاة، يا أيها الشيوخ: هذا ما يقوله رسول الله قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. وأم هانئ أجارت مشركاً، ونحن اليوم نجير جارنا المسلم إلا أنه أنه لا قيمة لهذا الجوار، المسلمون يستهدف بعضهم بعضاً، دم المسلم غالٍ عند الله، غالٍ عند الإنسانية، لكنه رخص اليوم في أعيننا، ولأتفه الأسباب يقتل مسلم مسلماً في مشاجرة من أجل أمر تافه، بل من أتفه ما يمكن أن يكون، هنا يقتل إنسان نفسه ويقتل من معه من أجل أن يُدعى عند الناس قائداً لسيارة وهو يسرع، من أجل أن يُنصَّب بطلاً لسرعة جنونية في سيارة يركبها، فلا دماء الناس الذين معه تهمه ولا المال الذي تشكله السيارة يهمه ولا نفسه حتى تهمه ولا من أمامه قد وضعهم في ساحة اهتمامه بل هو مستهتر في كل شيء، كم يموت من الناس جراء الحوادث هنا وهناك ؟

حديث آخر وهو صحيح مروي في البخاري: (ذمة المسلمين واحدة) ذمتك ذمتي هكذا يجب أن نكون لكننا نرد على النبي تقريره بحالنا (يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً) أي من غدر بمسلم (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل) لا يقبل منه فريضة ولا نافلة حتى إن كان هنا صاحب فرائض وظهرت عنبة الصلاة على جبينه لا قيمة له حسب كلام سيدي رسول الله.

يقول عليه الصلاة والسلام كما في البخاري أيضاً: (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان) ويقول عليه الصلاة والسلام كما في البخاري أيضاً: (من قتل معاهداً) أنت لا تعترف على إسلام هذا المسلم فلنسلِّم جدلاً بذلك هذا الذي يعيش بجانبك مسلم وأنت لا تعترف على إسلامه سلمنا جدلاً بأنه غير مسلم لكن من الذي يعاقب غير المسلمين ؟ الذي يعاقب غير المسلمين ولي الأمر ولست أنت. سلمنا أيضاً بأنك ولي الأمر تسفك الدماء التي تريد لكن في النهاية أوليس هذا المسلم المارق في نظرك عن دينه أوليس هذا معاهداً من قبلك لأنه يعيش معك في وطن واحد تحملون هوية واحدة تحملون جواز سفر واحد (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً).

أختم في الكلمة التي قلتها في اللطيفة الأسبوع الماضي: يقول أحد رجالاتنا الذين نفتخر بهم: البَّر، جمعه أبرار، ﴿إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً﴾ البر: هو من لا يؤذي الذر - النمل - ولا يضمر الشر. فهل أنت بَر ؟ سؤال أدع جوابه إليك عن نفسك ولنفسك.

يا رب الحجيج، يا رب البيت الحرام، يا رب عرفة، يا رب المسعى، يا رب البيت العتيق، يا رب زمزم، يا رب منى، يا رب مزدلفة، يا رب من لبى، يا رب العج والثج، أدعوك بأحب أسمائك إليك، باسمك الأعظم، أن توفق المسلمين من أجل أن يكونوا من الموفين لعهدهم معك يا رب، ومع إخوانهم المسلمين، ومع الناس كافة، إذا ما أبرموا عهداً معهم، أسألك يا رب أن تجمع قلوبنا وأن تنصرنا على عدونا، وعدونا هو عدوك يا رب، وما كان هذا عدونا إلا لأنه عدوك، انصرنا على أعدائنا أعداء الإنسانية من صهيونية آثمة باغية، ومن موالين لهم يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 14/12/2007

التعليقات

شاركنا بتعليق