1- الظهور:
علم أصول الفقه كما ينقل الآمدي هو: "أدلة الفقه وجِهات دلالتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها جملة)(1).
أما الأسنوي فعنده: "أن المراد من معرفة الأدلة أن تعرف أن الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها، وأن الأمر - مثلاً - للوجوب)(2).
ويعرفه ابن خلدون بقوله: "النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف".
ولنذكر هنا: أن أصول الفقه مستمد من علم الكلام ومن اللغة العربية ومن الأحكام الشرعية، وقد بُحث به قبل البحث بأصول الدين والعقيدة، لأنه مرتبط بالأمور العملية، في حين أن أصول الدين من حيث كونه علماً يرتبط بأمور نظرية بحتة. ولا بد من القول هنا: إن أصول الفقه وأصول الدين قانونان يعصمان الفقيه والمتكلم من الخطأ الاستدلال على الأحكام.
وقد سعى الشافعي رحمه الله تعالى بعد أن درس فقه الحجازيين على مالك وفقه العراقيين على محمد بن الحسن الشيباني إلى وضع قواعد ثابتة منظمة للاجتهاد الفقهي، فلاحظ الأسس والمعايير التي لاحظها الفقهاء من قبله ووازن بينهما ثم دوّن كل ذلك في أبواب مترابطة فكان علم أصول الفقه. يقول الإمام أحمد بن حنبل: "لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي". ويقول الجويني: "إنه لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الأصول ومعرفتها" ويقول ابن حنبل أيضاً: "الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه". لكن ابن النديم يروي أن أبا يوسف هو أول مَنْ دون في علم أصول الفقه، وذكر له كتاباً مفقوداً وتابعه في ذلك الخطيب البغدادي في (تاريخه) والسمعاني في (أنسابه) وابن خلكان في (الوفيات)(3). والمهم أن المشتغلين بالفقه أحسوا بضرورة الأصول، فقد طلب الفقيه عبد الرحمن بن مهدي الحافظ من الإمام الشافعي أن يضع كتاباً يبين فيه معاني القرآن والسنة والناسخ والمنسوخ وحجية الإجماع فاستجاب الشافعي، وأملى على تلميذه الربيع بن سليمان مجموعة سُميت (بالرسالة)، وبحث فيها الكتاب والسنة ومنزلة السنة من القرآن وطرق إثباتها والاحتجاج بخبر الواحد، والناسخ والمنسوخ كما بحث فيها الدلالات اللفظية فبيّن العام والخاص والمشترك والمجمل والمفصَّل وبيّن حقيقة الإجماع وضابط القياس، وتناول الاستحسان، والظاهر أن الشافعي صنّف الرسالة ببغداد، ولما قدم مصر واستوطنها أعاد تصنيفها، والنسخة التي بين أيدينا اليوم هي التي أملاها الربيع بمصر، ولم تكن (الرسالة) كل ما أثر عن الشافعي في علم الأصول بل أثر عنه أيضاً كتاب (إجماع العلم) و (إبطال الاستحسان) ثم جاء بعد الشافعي مَنْ طوّر ونمّى هذا العلم فقد زاد الحنفية العرف والاستحسان، وزاد المالكية (عمل أهل المدينة) كما كتبوا عن المصالح والذرائع. وكتب الإمام أحمد كتاب (العلل) و(الناسخ والمنسوخ) و(طاعة الرسول) كما كتب كثير من الفقهاء كابن حزم الظاهري الذي صنف كتاب (الأحكام) على منهج الظاهرية وفي (المحلّى) أشار إلى منهجه أيضاً، وكتب سواه من الجعفرية و الإباضية الكتب الكثيرة.
2- مناهج الأصوليين في كتابة هذا الفن:
هنالك اتجاهان يمكن أن نطلق عليهما الاتجاه النظري والاتجاه العملي. أما النظري فهو ما عرف بطريقة الشافعية والمالكية أو بطريقة المتكلمين، والثاني عرف بطريقة الحنفية. كما أن هنالك مسلكاً ثالثاً جاء متأخراً عُرف بطريقة المتأخرين.
أما طريقة المتكلمين فتقوم على تجريد قواعد الأصول عن الفقه والميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، فما أيدته العقول والحجج أثبتوه وإلا فلا دون اعتبار لموافقة ذلك للفروع الفقهية أو عدم موافقتها، ويبدو أن أهل هذا الاتجاه أدخلوا في أصولهم كثيراً من موضوعات علم الكلام لأدنى ملابسة ومن هذا نقاشهم وبحثهم في عصمة الأنبياء، وحديثهم عن قبح الأفعال وحسنها.
إذاً طريقة هؤلاء تتميز بأمرين: 1- البعد عن مسائل الفروع. 2- الاستدلال العقلي.
وقد أُلِّفت على هذه الطريقة كتب كثيرة أساسها (العهد) للقاضي عبد الجبار، وشرحه (المعتمد) لأبي الحسين محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي، وكتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني الشافعي، و(المستصفى) للغزالي، ثم تفرغ لهذه الكتب الثلاثة عالمان من علماء الكلام هما الرازي الشافعي والآمدي الشافعي وجمعها كل منهما في كتاب وفق أسلوبه، وسمى الرازي كتابه (المحصول في علم الأصول)(4) وسمى الآمدي كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)(5).
وأما طريقة الحنفية: فقد كان مسلكهم أنهم جعلوا أحكام الفروع التي نقلت عن أئمتهم مصدراً لهم لاستنباط الأصول، وهذه الطريقة أمسّ بالفقه وأليق بالفروع، وهم بذلك كأنهم دوّنوا الأصول التي ظنوا أن أئمتهم اتبعوها في تفريع المسائل وكانت منهجاً لهم في استنباط الأحكام، لذلك فإنهم إذا قرروا قاعدة أصولية ثم وجدوها مخالفة لفرع فقهي شكّلوا قاعدة الأصولية بالشكل المتفق مع الفرع الفقهي.
وعلى هذا فأصول الحنفية واقعية أكثر منها نظرية. وقد كتب وفق هذه الطريقة الكرخي والرازي والجصَّاص والدبوسي صاحب (تأسيس النظر) والسرخسي والبزدوي والنسفي وهؤلاء حنفيون، وكتب وفق هذه الطريقة من غير الحنفية: شهاب الدين إدريس المالكي صاحب كتاب (تنقيح الفصول في علم الأصول) والأسنوي الشافعي صاحب (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول)، كما أن ابن تيمية وابن القيم يغلب على منهجهما في كتابتهما الأصول هذا الاتجاه.
أما طريقة المتأخرين الجامعة بين الطريقتين: فقد كتب فيها أحمد بن علي الساعات صاحب (تنقيح الوصول) الذي شرحه بكتاب آخر سماه (التوضيح) لخص فيه (أصول البزدوي) و(محصول الرازي) و(منتهى السؤل والأمل) لابن الحاجب المالكي.
ومن المتأخرين أيضاً الكمال بن الهمام في كتابه (التحرير) وشرحه (التيسير) وابن السبكي في كتابه (جمع الجوامع) وهناك من خط له منهجاً خاصاً به في كتابة الأصول كالشاطبي في كتابه (الموافقات).د. محمود عكام
(1) الإحكام في أصول الأحكام.
(2) حاشية الأسنوي على منهاج البيضاوي.
(3) مناهج الاجتهاد في الإسلام لمحمد سلام مدكور من 64.
(4) طبع هذا الكتاب طبعات كثيرة بتحقيقات وفيره: الموسوعة الإسلامية المسيرة.
(5) طبع الكتاب طبعات عديدة: الموسوعة الإسلامية المسيرة.
التعليقات