آخر تحديث: الثلاثاء 23 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
التسامح الديني

التسامح الديني

تاريخ الإضافة: 2024/04/25 | عدد المشاهدات: 4403

أمَّا بعد :
أيُّها الإخوة المؤمنون :
في وقتٍ كَـثُرتْ فيه المصطلحات، وتزاحمتْ على الشِّفاه، وراح الناس يعطونها ماشاؤوا منَ المعاني، ويضمِّنونها ما أرادوا، وما تملي عليهم أهواؤهم منْ دلالات، وجدتُّـني مضطرا ً لبيان بعضٍ منها، منْ منظورٍ أسأل الله أنْ يكون مسلما ً، ذلك أنَّ المصطلح منفذٌ للعقيدة، ووسيلةٌ للتعبير عنها، فلزمَ ضبطه ومعايرته وفقَ شريعة الله، منْ كتابٍ كريم وسنَّـةٍ شريفة . ويوم اتـَّخذ أعداء الله بعضَ المصطلحات وسيلةً للإساءة إلى إيمان المؤمن، ومنفذاً إلى ذلك، جاء المنع في القرآن الكريم حاسما ً: ( لا تقولوا راعنا وقولوا انْظرنا ) .
واليوم ونحن أمام عددٍ وركام كبير من هذه المصطلحات، فإنَّْ موقفنا لا يعدو أنْ يكون أحدَ أمرين، إمَّا الرفض وإمَّا التصحيح، وبقدر ما أذكر منْ مصطلحاتٍ تحتاج إلى تصحيح، بقدر ما أنفي تلك المصطلحات الشائعة، التي تقتضي منَّا رفضا ًومنعا ًوعدمَ قبول لها، ولنظرائها من المصطلحات التي تقتضي الردَّ . 
أيُّها الاخوة :
مصطلحٌ يحاول الناس في بقاع الأرض أنْ يتذرَّعوا به، وأنْ يتسلَّحوا به، بل تحاول الديانات الموجودة اليوم أنْ تتَّخذه لها عنوانا ً، بل ويحاول أولئك الملحدون أنْ يضعوه في مواجهة بعض المتديِّنين ، أو في مواجهة بعض أصحاب الديانات، إنَّ هذا المصطلح هو " التسامح الديني " .
إنَّه مصطلحٌ يريده كلُّ الناس، ويـتمنَّاه كلُّ الناس، ويطلبه كلُّ الناس، مصطلحٌ غدا ضروريا ً اليوم، بعد رؤيتنا لمشاهدَ تقشعرُّ منها الجلود، بعد رؤيتنا لمناظر تكاد تأخذ بالأبصار من فظاعتها، وما " لبنان " عنَّا ببعيد، وما غيره عنَّا ببعيد، إنَّهم يدَّعون ولكنهم لا يفعلون، إنَّهم يقولون ولكنهم لا يُـضمِّنون . إنَّ مصطلح التسامح غدا اليوم حجةً يتذرَّع بها أصحاب الباطل في مواجهة الحق ، ويُـتناسى منْ قِبلهم حينما يقومون بباطلهم . 
لقد أصَّلنا لهذا المصطلح قواعد، ولقد حدَّدنا لهذا المصطلح أسسا ً، إلا أنَّ الآخرين - ولا أقول هذا تجنِّيا ًعليهم - وضعوه في مواجهتنا حينما نمارس حقا ً لنا، وهؤلاء هم أنفسهم الذين رمَوا هذا المصطلح خلفهم حينما عبثوا بباطلهم ، نحن الذين قدمنا للدنيا حدود َهذا المصطلح، أركانَ هذا المصطلح، تطبيقاتِ هذا المصطلح، وكان مِنْ نتيجةِ ذلك أنْ شهد الناس لنا، أنْ شهد الآخرون لنا، أنْ شهد الأعداء لنا، فلقد قال قائلهم في كتابٍ طبع في القرن العشرين : " لم يعرف التاريخ فاتحين أرحم من المسلمين " .
أيُّها الاخوة :
قبل الحديث عن التطبيقات والشهادات، لا بد أنْ نبيِّن القواعدَ والأسس ، ومن خلال القواعد والأسس ندرك التعريف .
1- لقد رسَّخ الإسلام تحت عنوان التسامح أشياءَ كثيرة، فلقد رسَّخ في قلوب المسلمين أنَّ الديانات السماوية تستقي من مَعينٍ واحد، من أجل التسامح، فقال : ( شرع لكم منَ الدِّين ما وصَّى به نوحا ًوالذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدِّين ولا تتفرقوا فيه ) . 
2- رسَّخ الإسلام من أجل التسامح في قلوب المسلمين أنَّ الأنبياء اخوة، لا تفاضلَ بينهم مِنْ حيث الرسالة، ومن حيث الإيمان بهم، فقال القرآن الكريم : ( قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحَق ويعقوب والأسباط وماأوتيَ موسى وعيسى وما أوتيَ النبيون مِنْ قبلهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) . لا نفرِّق بين أحدٍ منهم، لا نفرِّق على الإطلاق، فالكلُّ في نظرنا أنبياء، ونحن له مسلمون . 
3- لقد رسَّخ الإسلام تحت قنطرة التسامح أنْ لا إكراه في الدين، فالعقيدة ينبغي أنْ يستقبلها القلب والعقل بشكلٍ واضح، وبشكل جليٍّ : 
( لا إكراه في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشد منَ الغَيِّ فمَنْ يكفر بالطاغوت ويؤمنْ بالله فقد استمسكَ بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) . 
4- لقد رسَّخ الإسلام من أجل التسامح أنَّ أمكنة العبادات على اختلافها محترمةٌ في نظر المسلمين، فها هو القرآن يقول : ( ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض لهدِّمتْ صوامعُ وبِـيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكَر فيها اسـم الله كثيرا ً ) . 
5- لقد رسَّخ الإسلام من أجل التسامح أنَّ هؤلاء المسلمين ينبغي أنْ ينظروا إلى غيرهم على أنَّهم بشر، يجادلونهم بالتي هي أحسن ، فقال القرآن الكريم : ( ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) . وإذا ما اقتضى الأمر الشَّتم، فإيَّاكم والشَّتم : ( ولا تـَسـبُّـوا الذين يَـدْعون مِنْ دون الله ، فـيـسبُّوا الله عَدْوا ً بغير علم ) . 
6- لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين من أجل التسامح البِرَّ لهم، وحُسْنَ الضيافة لهم، فها هو القرآن يقول للمسلمين : ( وطعام الذين أوتوا الكتابَ حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم ) .
7- لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين أنْ لا عداوة بين المسلمين وبين غيرهم، لمجرَّد كونِهم غير مسلمين، وتركَ الأمر ليوم القيامة، اللهمَّ إلا إذا اعتدى هؤلاء على المسلمين، إلا إذا وقف هؤلاء في طريق دعوة المسلمين حجرَ عثرة، عند ذلك قال القرآن الكريم : ( وقالت اليهود ليست النَّصارى على شيءٍ، وقالت النَّصارى ليست اليهود على شيءٍ، وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثلَ قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين كلَّ هذه الأسس ليحدِّد التسامح المطلوب مِنْ إنسانٍ يعيش على وجه هذه البسيطة، وليمارس هذا التسامح ممارسةً رائعة، تنبثق من إنسانٍ استلم سدَّة الحياة، وعاش ليؤكِّد للناس إنسانيته الرائعة . 
إنَّ هذه أيُّها الاخوة أسسٌ رائعة، ونحن نطالب الآخرين بتحديد أسسٍ للتسامح عندهم؛ ثمَّ سنأتيهم ببعض التطبيقات لنقول لهم :
- إنَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم استقبل وفد نصارى الحبشة، وأكرمهم بنفسه وقال : " إنَّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، فأحبُّ أنْ أكرمهم بنفسي " . 
- استقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وفد نصارى نجران، وسمح لهم بإقامة الصلاة في مسجده . 
- استقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هديةً من المقوقس في مصر، وهي الجارية التي أنجبت إبراهيمَ ولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ وقف فقال : " استوصوا بالقـبـط خيرا ً، فإنَّ لي فيهم نسبا ً وصهرا ً " . 
هذا هو التطبيق أيُّها الاخوة . 
إذا ما أردتم مثالاً للتسامح في حياة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فسلوا ذلكم الرجل المشرك مُطعِم بن عدي، الذي قدَّم مساعدة للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في حِماه، حينما عاد من الطائف، دخل في حماه إلى مكة،ثمَّ ذهبت الأيام، وتوالت، وإذ بمطعم يموت كافرا ً، أما وأنَّه قدَّم خدمة للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد وقف حسان الشاعر المسلم رضي الله عنه، فرثاه فقال قصيدته التي أوَّلها :
فلو أنَّ دهرا ً أخلدَ مجدَه اليوم واحدا ً لأخلدَ الدَّهرُ مجدَه اليوم مطعما ً
فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . 
أيُّها الاخوة :
إنَّ التسامح ملحوظٌ يوم جاءت فاطمة، وهي صغيرة السِّنِّ رضي الله عنها وأرضاها إلى أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، تشتكي لطـْمَ أبي جهلٍ لها - لطمها أبو جهل - فقال لها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم : " اذهبي إلى أبي سفيان واشتكي له " وذهبت إلى أبي سفيان، وقالت له القصة، فأخذها أبو سفيان وكان مشركا ً، وقال لها :ا لطمي أبا جهلٍ كما لطمك ، فلطمته وعادت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فرفع يديه إلى السماء وقال : " اللهمَّ لا تنسها لأبي سفيان " . يقول ابن عباس : فما أظنُّ أنَّ إسلام أبي سفيان إلا استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه .
لبنان شاهدٌ على أولئك الذين يقفون اليوم أمام المسلمين، لبنان شاهدٌ يوم يصنِّف هؤلاء الدولةَ لا على أساس العدد، فالمسلمون أكثر من غيرهم في لبنان، ولكنَّها البغضاء، أمَّا التسامح فعنوانٌ مزركش يظهرون به على منابر الأمم المتحدة ، ليسكتوا أصوات الحق المنبعثة هنا وهناك ، ولكن سيبؤون بالفشل وربِّ الكعبة ، في كلِّ مكان .
أيُّها الاخوة :
لا نريد أنْ نتعدَّى على إنسان، ولا نريد أبدا ً أنْ نكون المهاجمين البادئين، ولكنْ ما حيلتنا، وما رأيكم أنَّ الإسلام اليوم يهاجَم على أنَّـه خالٍ من التسامح، وهذه قواعده وهذه أسسه !! .
وسنتكلم في الأسبوع القادم عن تطبيقاتٍ للصحابة والتابعين، وعن شهاداتٍ الآخرين بذلك .
ونحن ندعو الآخرين اليوم ليحددوا لنا من خلال كتابهم، من خلال دساتيرهم، من خلال مناهجهم، ليحددوا أسسا ً للتسامح يمكنها أنْ تكون موازية، أو أقلَّ من تلك التي حددناها .
أيُّها الاخوة :
لا تصدقوا أبدا ً ما يُـلقى في آذانكم،مِن اتهامٍ للإسلام، على أنَّه شرس، هم شرسون وربِّ الكعبة، انظروا إليهم في شرق البلاد وغربها، منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، لن ينسى المسيحيون أنفسُهم ، لن ينسى النصارى يوم دخل محمَّد الفاتح القسطنطينية هناك ؛ فوقف أحد المسيحيين الأرثوذكس ليقول : " إنَّ عمامة السلطان أحبُّ إلينا منْ تاج البابا الرومي الكاثوليكي، الذي حلَّ بنا، واستعمرنا " . نعم لم يعرف التاريخ فاتحين أرحم من المسلمين، هكذا قالوا . 
لمَّا حكمنا شهدَ الناس بعَدْ لنا لما حكمتمْ سالت بالدِّماء الأبْطُحُ
فلندعُ إلى الإسلام أيُّها الشباب بقوة، وهو دين القوة إنْ أردتَه، وهو دين الشجاعة إنْ أردته، وهو دين الحقِّ إنْ أردته، وهو دين التسامح وبالأرقام إنْ أردته . 
أنا الرجل الذي أبحث أيُّها الاخوة - واعذروني هنا إذا قلت هذا - أنا الرجل الذي أبحث وربِّ الكعبة عن الحقيقة دائما ً، لقد حاولتُ أنْ أقرأ في كتب الآخرين قواعدَ للتسامح نظموها، أو أسسا ً للتسامح وصفوها، فلم أجد إلا ادعاءً لا يمكن أنْ يكون له رصيد، لم أجد لدى هؤلاء إلا ادعاءً لا تاريخ يسنده، ولا واقع يدعمه، ولكنَّـه الادعاء في مواجهة المسلمين فقط، إنَّهم في مواجهتنا يدَّعون التسامح، ولكنهم في باطلهم يعبثون بكلِّ القيم، بكل الأخلاق، بكل المبادئ . 
هيَّا أيُّها المسلمون إلى قوَّتكم، إلى شجاعتكم، إلى تسامحكم، فربُّـكم معكم،ولن يترككم .
نعمَ مَنْ يُسأل ربُّـنا، ونعمَ النَّصير إلهنا .

التعليقات

شاركنا بتعليق