أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون :
قالوا لي : كيف يجب أن توقظ الخُطب
الأمة النائمة الخجلى الضعيفة ؟ قلت لهم : كيف يجب - أيضاً - أن توقظ الأمة
الخطب التي ابتعدت عن مسارات شروط الإسلام وقواعده ؟ إذا أردتم إيقاظاً للأمة
عبر خطب وكلمات فلتكن الخطب والكلمات منتسبةً حقَّ الانتساب للإسلام ، وهل
تريدون أن تستيقظ الأمة بخطب لا تنتسب للإسلام إلا شكلاً ، بكلمات لا تعرف
علاقة مع الإسلام إلا عن طريق الادِّعاء ، لا تعرف تقعيداً ولا ارتباطاً بقواعد
الإسلام إلا علي سبيل الرمزية البعيدة ، إذا أردتم للأمة أن تستيقظ وأن توقظها
الخطب فانظروا الخطب ، وانظروا ارتباطها وتحققها بشروط القرآن ، وشروط النبوة
التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذلك قلت لهذا السائل : يجب
أن توقظ الأمة الخطب أيضاً ، لأن الأمة والخطب نسيجٌ واحد ، وبعضها – الخطب –
من بعضهم – الأمة - ، فاسمح لي - أيها السائل - أن أقول لك ابتداء كيف توقط
الخطب الأمة ، وفي الأسبوع القادم عن كيفية إيقاظ الأمة للخطب وكيف توقظ الأمة
الخطب .
إذا أردت أن توقظ الخطب الأمة ، فلا بد للخطب والخطباء من شروط ، وأول هذه
الشروط الصدق .
وأنا حينما أقول مثل هذه الكلمة أريد تبيان معناها ، وتحديد دلالتها ، فالصدق
يعني أن تتوجه إلى الأمة – أيها الخطيب والمتكلم مَنْ كنت - تريد نفعها فعلاً
سواء أكنت تخطب في الجامع أو في المؤتمر أو في المحفل السياسي أو المكان
الاجتماعي ، سواء أكنت رئيساً أو خطيباً ، سواء أكنت متديناً في المسجد أو كنت
مُدَرِّساً في المدرسة أو في أي مكان ومستوى وصعيد .
الصدق من شروط تأثير الخطبة في الأمة ، ومن أجل أن تؤثر خطبتك في الأمة يجب أن
تكون صادقاً ، أي أن تتوجه إلى نفع الأمة فعلاً من دون مجاملة ، والصديق من
صَدَقَك لا من صَدَّقك ، والخطيب هو من يَصدُق الأمة لا من يُصَدِّقها ويجاملها
، انظروا خطبنا عبر التلفاز أو الإذاعات أو المنابر أو المحافل ، انظروا إلى
نسب المُجَاملة فيها فسترون أن المجاملة تكاد تغطي مساحة الخطبة ، نحن نقول لمن
يقول الله أكبر نحن معك من دون أن نفحص ونمحص هذا الذي يقول الله أكبر لأننا لا
نريد أن نعيش مخدوعين وأغبياء ، نريد أن نفحص الأمر لأننا مطالبون بالصدق والله
عز وجل قال : ﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ﴾
النساء : 135
لا تشهدون لإنسان دون سواه وإنما يجب أن تشهدوا لله ( قوامين بالقسط ) في
كلامكم وأفعالكم ، اعدلوا في حكمكم على هذا " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت
لقطعت يدها " قوامين بالقسط في كلامنا ، نبتغي الصدق ، نبتغي نفع الأمة ، حتى
ولو كان هذا الذي يؤذي الأمة يتجلبب بجلبابِ دينٍ ، ينبغي أن نبين ذلك وأن نقول
لهذا ناصحين لا . ويجب أن لا يطغى علينا شكل متدين ليكون هذا الشكل على حساب
حقيقة نريد أن نظهرها باجتهادنا وصدقنا وعملنا . الصدق ، يقول عليه وآله الصلاة
والسلام في حديثٍ يرويه الإمام أحمد في مسنده : " اضمنوا لي ستاً أضمن لكم
الجنة " ومن جملتها : " اصدقوا إذا حدثتم " أي كونوا صادقين في إرادة النفع لمن
تتحدثون .
الشرط الثاني الإخلاص : هنالك فرق بين الصدق والإخلاص ، فالصدق أن تتوجه إلى
نفع الأمة فعلاً ، والإخلاص أن يكون توجهك لنفع الأمة تبتغي به وجه الله ، لا
تبتغي به ثناء الأمة ولا مالها ، ولا أن تُذكَر بخير عند الأمة ، ولكن أن تتوجه
إلى نفع الأمة تبتغي وجه ربك عز وجل . روى الحاكم في مستدركه أن رجلاً جاء إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله إني أقف الموقف – خطيباً أو
عاملاً أو متكلماً أو مدرساً أو مجاهداً حتى – أريد وجه الله وأريد أن يرى
موطني في هذا ، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم تلا
قوله تعالى ﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ﴾
الكهف : 110
عليك أن لا تشرك بعبادة ربك أحداً ، تقف الموقف فلتبتغِ وجه الله وإياك أن
تبتغي أمراً آخر ، أن يُرَى موقفك : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى " هكذا قال نبينا المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام . الإخلاص بعد الصدق .
الشرط الثالث توثيق الخطيب معلوماته وخطابه : عليك أن توثق معلوماتك لتبيِّن
للناس أن هذه المعلومات تنتسب للإٌسلام ، لعلي قلت أكثر من أربعة أشهر : كم من
متحدث يتحدث عن الإسلام ولكن كلامه لا يَمُتُّ إلى الإسلام بصلة ، كم من متكلم
وداعية يُمطِرنا بكلام وحديث عن الإسلام إلا أن الأحاديث التي ينسبها للنبي
عليه وآله الصلاة والسلام ليست صحيحة ، ولا يُبنَى الصحيح بغير صحيح ، ولا توقظ
الأمة بكذب ، الله عز وجل قال : ﴿ اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم
أعمالكم ﴾ الأحزاب : 70 – 71
وثِّق كلامك ، وكلنا يعلم الحديث المتواتر المعروف : " من كذب علي متعمداً
فليتبوأ مقعده من النار " أنا أسمع وأنتم تسمعون أن من يتكلم ويخطب إِنْ عن
الإسلام فكلامه وخطابه يكاد يكون بعيد الصلة عن الإسلام ، ومن يتكلم عن الأمة
وباسم الأمة يكاد يكون كلامه بعيداً عن أن ينتسب لحقيقة ما تعانيه الأمة ،
وأكاد ألخص هؤلاء برجلين : رجل يتحدث باسم الدين وكلامه بعيد عن الدين ، وآخر
يتحدث باسم الأمة وكلامه بعيد في كل آلامها وآمالها عنه ، ولا يمت كلامه إليها
بصلة ، وانظروا هذا الذي تسمعون لتجدوا كثيراً منه ينضوي تحت هذا الذي ذكرنا ،
من يتكلم باسم الدين ستجده في كلامه بعيداً عن الدين والقرآن والسنة الصحيحة ،
ومن يتكلم بالسياسة أي بالأمة ستجد أن كلامه معسولاً يريد المجاملة غير أنه لم
يوثق ولم يؤكد الصلة بين ما يقول وبين حال الأمة . من الذي يتكلم عن فلسطين من
السياسيين ؟ أنالا أقول ليس ثمة أحد ، ولكن أقول وأعني هؤلاء الذين يتحدثون عن
فلسطين والعراق ، بَيْدَ أنهم لا يتحدثون بكلام موثوق الصلة ومنسوب إلى الأمة
التي تعاني ، ناطقون كثيرون باسم الأمة بيد أنهم لا يُعبِّرون عن الأمة ،
ناطقون كثيرون باسم الدين بيد أنهم لا يعبرون عن الدين لأنهم لا يوثقون كلامهم
إِنْ إلى الأمة أو إلى الدين أو إلى الله أو إلى الرسول ، وهكذا تختلط الكلمات
والألفاظ وتضيع حقائق الأمة والدين ، ولا أحد يتكلم عنها إلا النزر اليسير .
الشرط الرابع الكلام المناسب : أن يكون كلامك مناسباً وأن يلامس المشاكل ملامسة
فعلية وحقيقة ، فكم من خطيب يتحدث عما لا تعيشه الأمة ، وكم من خطيب يتحدث عن
أمور لا تمت إلى واقع الأمة بصلة ، وكم من خطيب يحدث الناس فوق عقولهم ، وكم من
خطيب يحدث الناس دون عقولهم ، وهنا وبين قوسين عندما أقول كم من خطيب يحدث
الناس فوق عقولهم أريد من عقول الناس أن ترتقي ، ولا أريد من كلام الخطيب أن
يتدنى لأننا بحاجة إلى أن يشد بعضنا أزر بعض لا أن يأخذ بعضنا بقوة الخطيب
ليضعفها ويجعلها في الحضيض ، نريد أن نرتقي في عقول الأمة ولا نريد أن نجامل
الأمة في عقلها الكسول الجامد . هذا ما أردت الاحتراز فيه ومنه حينما اشترطت
مناسبةَ كلامِ الخطيب لتفكير الأمة ، وقد ورد في الحديث : " ما أنت مُحَدِّث
قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم تِرَة " قطيعة ، إلا كان على
بعضهم إفكاً وسوءً وأمراً ثقيلاً لا يستوعبونه .
الشرط الخامس العِفَّة : على الخطيب أن يكون عفيفاً ، أياً كان هذا الخطيب وفي
أي مكان ، عفة الخطيب ، عفة مع الناس عنوان علاقتنا معهم ، كن عفيفاً أيها
المسؤول الكبير وكذلك أيها الخطيب : " ومن يَستَعِفَّ يُعفه الله ، ومن يستغن
يغنه الله " هكذا قال نبينا كما في البخاري ومسلم نحن بحاجة إلى عفة تنشر
أريجها في مجتمعنا ، نحن بحاجة إلى أرضية عفة نعيش عليها ، نريد من المسؤول أن
يكون عفيفاً ، ومن الشيخ والمدرس ، إذا كنت عفيفاً في طعامك " عِفَّةٌ في طعمة
" إذا تحليت بها فلا عليك ما فاتك من الدنيا ، فستأتيك الدنيا راغمة ، يجب أن
يكون الخطيب عفيفاً ، والعفة تعني أن لا يكون لديه تطلعاً لما في ايدي الناس ،
دلني على أمر إذا فعلته أحبني الله وأحبني الناس هكذا قال رجل للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم كما في الترمذي قال له : " ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد
فيما في ايدي الناس يحبك الناس " أصبحت طموحاتنا مادية ، متى سيكون قريبي
مسؤولاً حتى أستفيد ، متى سيكون أخي وأبي مسؤولاً حتى أستفيد ، متى سأستلم
المنصب الفلاني ، أمن أجل الصدق مع الأمة ! أم من أجل الإحسان مع الأمة ! أم من
أجل معايشة مشاكل الأمة ! لا . أنا لا أُعَمِّم ، فهناك مخلصون ، ولو افتقدنا
المخلصين إطلاقاً لدمرت هذه الدنيا ، ولكن أتكلم فيما يغلب علينا ، ولعل قائلاً
تقول فيما يغلب علينا ؟ أقول هذا بحسب النتائج ، ولو أن النتائج كانت طيبة لبطل
كلامي ، ولما جاز لي أن أقول هذا ، ولكن الغالب علينا وفينا ، لأن النتائج بحسب
الأغلبية ، إذا تحقق أغلب السبب ، تحقق المُسَبِّب ، لذلك أنا لا أعمم ولكن
أتحدث عن غالبية تفترش وضعنا وأرضنا وحالنا ، وما أظن أن أحداً منكم يخالفني في
ذلك .
لم أُرِد أن أكثر من شروط الخطب لتوقظ الأمة ، لكنني جعلتها : الصدق والإخلاص
والتوثيق والعفة والمناسبة لمستوى الأمة ومشاكلها ، وعلى حسب مقتضى الحال أن
يكون بليغاً ، والبلاغة هي موافقة الحال ، وعندما تتحدث عما يقتضيه الحال فأنت
إذاً بليغ .
هذه شروط خطب - الله أعلم - يجب أن توقظ الأمة ، واسمحوا لي أن أقول : كلكم
خطباء ، لأن لكلٍ منكم مجالاً يتكلم فيه ، فما منكم إلا وهو أبٌ ومجاله في
أسرته ويتكلم كثيراً في أسرته ، وما منكم إلا مدرس ومجاله مدرسته ، وما منكم
إلا طبيب ومجاله المستشفى وعيادته ، وما منكم إلا مهندس ومجاله أرضه وساحته
ومعمله ، وما منكم إلا تاجر ومجاله محله ومتجره ، وما منكم إلا مسؤول مدير
ومجاله دائرته ، وهكذا دواليك ، وقِسْ على هذا بقية ما يمكن أن نكون قد نسيناه
من مفردات المجتمع وشرائحه .
توجهو إلى العلي القدير أن ينصر أمتنا ، وقبل أن نقول أن ينصر أمتنا أن ينصرنا
على أنفسنا ، توجهوا ليس فقط باللسان ولكن بالحقيقة والأفعال ، توجهوا إلى ربكم
: قولوا له : اللهم من كادنا فكده إن في فلسطين والعراق ، اللهم من اعتدى علينا
فاجعل الاعتداء يدور عليه ، يا رب العالمين ، ادعوا ربكم عز وجل أن ينصر
إخوانكم المصلحين الصالحين المخلصين الصادقين في العراق وفلسطين في كل مكان وفي
كل بقعة من بقاع الأرض .
قال لي بعضكم : لماذا تركزعلى فلسطين ولا تركز على العراق ؟ قلت له : لأن
فلسطين هي الرأس والقلب والأصل ، وعندما ندعو لفلسطين الرأس فإننا ندعو لسائر
الأعضاء ضمناً " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد
الجسد كله ، ألا وهي القلب " وإذا أردنا أن نعدد فليس الأمر يقتصر على العراق
بل المسلمون في كل العالم بحاجة إلى دعاء ، لكن القضية المركزية لإسلامنا هي
فلسطين ، وأي حديث عن إسلام من غير فلسطين حديث ناقص ، وأي حديث عن فلسطين من
غير حديث عن إسلام حديث عن فلسطين التي لن تتحرر ، لأن فلسطين لا يمكن أن تتحرر
إلا بالإسلام ، ولا يثبت الإسلام جدارته إلا بتحرير فلسطين ، فاللهم يسر أمورنا
واشرح صدورنا وانصرنا على أنفسنا وأعدائنا نصراً مؤزراً يا رب العالمين ، نعم
من يسأل أنت ، ونعم النصير أنت ، أقول هذا القول وأستغفر الله .
التعليقات