هو انقلاب سياسي ذاك
الذي حدث عندما استغنت الأمة عن الشاعر واستعاضت عنه بالخطيب . لقد كان
الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب ، فنقول : قال الأعشى ، وقال امرؤ
القيس ، وقال النابغة الذبياني ، وقالت الخنساء . ولا نقول : قال قس بن
ساعدة ، وقال الأحنف بن قيس . ولسببين : الأول هو أن الشاعر كان يومها أكثر
التصاقاً بهموم قومه ، والثاني : أن الحياة العقلية في الجاهلية كانت تأبى
الخطابة وترى في الشعر ملاذها ، لأن العقل كان تفكيره ذو بعد واحد ومنصرف
إلى البحث عن مرعى - لا عن دولة.
لكن لما جاء الإسلام وفرض الصلاة على المسلمين ، وصارت صلاة الجمعة التي
يعتبرها رسول الله ( ص ) : " الجمعة حجّ المساكين " صارت الخطبة ضرورة من
ضرورات بناء الوعي الديني والسياسي للعقل العربي والإسلامي ، فكثر الخطباء
، واشتهروا ، واشتهرت خطبهم لأهميتها ( الفكرية ) . بل صار الاجتماع
الأسبوعي كل جمعة في المسجد يُعقد من أجل الاستماع إليها ، فكان رسول الله
( ص ) أول من خطب في الإسلام وأسّس للخطبة شكلاً ومعنى ، ثم تلاه من
الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ،
ثم اشتهر من النُسَّاك الحسن البصري ومالك بن دينار، وعرف أيضاً من الخطباء
البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي وعامر بن الظرب . بل إنها في الفترة
التي حكمت فيها الدولة المملوكية دمشق تحولت الخطبة إلى ما يشبه مواجهة بين
الاستبداد المتمثل في الملك الصالح إسماعيل الأيوبي وبين العز بن عبد
السلام الخطيب الفقيه رجل الزهد والخط المستقيم . فصارت الدولة - رأسها -
يحسب لخطيب الجمعة ألف حساب وحساب .
" فكر ومنبر " الكتاب الصادر حديثاً للمفكر الإسلامي الدكتور محمود عكام هو
كتاب يتشاكل معنا ، يحسب لنا ، ونحسب له ألف حساب وحساب . فالرجل يزن كلامه
وهو على المنبر ، يزن خطابه ، فخطبة الجمعة عنده هي دعوة لتوحيد الأمة - هي
فعل إيقاظ للضمير القومي ودفعه ، بل لِزَجِّه في معركة من أشرس معاركنا مع
العدو الصهيوني ، فمثلاً حين تقصف طائرات الأباتشي أشقاءنا الفلسطينيين في
رام الله ، وتدوس دباباته ، فتسحق ، تطقطق عظام رجال ونساء وأطفال في مخيم
( جنين ) لا يقف على المنبر ليحدثنا عن آداب الوضوء ، ولا عن ضرورة إطاعة
أولي الأمر. الدكتور محمود عكام يُنَفِّر / يدعو إلى التنفير / إلى الجهاد
، ففي خطبته المرابطة في سبيل الله يرى : ضرورة الإعداد لساعة الجهاد
والقتال مع عدو يتربص بنا الدوائر ، مع عدو اعتدى علينا ، مع عدو يريد أن
يرسم حدوده على جماجم أجدادنا ، مع عدو يريد من دمائنا أن تخط َّله خطوطاً
خضراء ، مع عدو يريد من دمائنا أن تكون قناديل تضيء له حدوده .
بل إن الدكتور محمود عكام وزيادة منه في رسم خريطة لحالنا / حال معركتنا
المؤجلة يشد أذننا غاضباً فيقول : ما كنا في يوم من الأيام لنفتح الحرب مع
عدونا ونغلقها من دون نصر مبين / بل ( ويُنَخِّينا ) محفِّزاً : من دون دحر
له ، من دون إخراج لهذا العدو مما اغتصب من أرضنا ، من بلادنا ، من ساحاتنا
.
الدكتور محمود عكام تجده دائماً حيث الفاجعة المأساة تلم بالأمة . حيث يمكن
أن يساعد بعلمه وبجرأته على دفعها ورفعها ، والمعروف عنه أنه في خطبته التي
يلقيها في جامع ( التوحيد الكبير ) واحدة من أهم خطب الجمعة التي تلقى في
مساجد حلب ، لأنها خطبة تعتني كثيراً بالحاضر ، وتهتم أكثر بالمستقبل.
فالدكتور محمود عكام يطرح في خطبته قضية واحدة ، وفكرة واحدة ، وبقليل من
اللفظ الذي يريد به الكثير من المعاني . فلا يهدر الوقت ولا يشتت مستمعيه ،
وكأنه مع ابن مسعود الذي يرى : أن طول الصلاة وقصر الخطبة مثينة - علامة -
من فقه الرجل ، وهذا يعني أنه كلما تمسك الخطيب بفكرة واحدة وفكرة تالية
إذا لزم وتكون داعمة للأولى كانت خطبته أبلغ وأقوى وأكثر تأثيراً .
فالانتقال من موضوع إلى موضوع يُضعف بل يذهب بفائدة الخطبة . ثم إن من يقرأ
( فكر ومنبر) يرى أن الدكتور محمود عكام يريد أن يؤكد أنه كلما كانت ثقة
الخطيب بربّه قوية - كلما لعب ، لعبت خطبته دوراً ثورياً ، فالخطيب الذي لا
يبغي من الخطبة سوى الفائدة التي في عظتها ولله بالله ، فإنه يتحول إلى رمز
تجتمع عليه الأمة - حالة العز بن عبد السلام - فأنت حين تقرأ ( فكر ومنبر)
سواء اتفقت معه أو اختلفت ، فإنك ترى أنه يقيم معك حواراً ، حوار احتكاك
فكرة بفكرة وليس تناطح فكرة مع فكرة - أي ليس اقتتال أو صراع فكرة يمثلها
فريق أحمر مع فكرة يمثلها فريق أزرق القصد منها إزاحة أو إزالة أو محو فريق
لفريق . فالدين الإسلامي لم يَمحق ، ولم يَمحُ ، ولم يَسحق أعداءه ولا
خصومه إلا إذا كانوا ( هم ) يريدونها حرب إبادة . فهو في معظم معاركه
وفتوحاته اتفق معهم على أن يعيشوا بشعور وطني أو قومي واحد ، وترك لهم
معتقداتهم ودياناتهم ( أهل الكتاب ) يمارسون فيها طقوسهم وشعائرهم ، بل أنه
تكفل بحمايتها .
الدكتور محمود عكام في ( فكر ومنبر ) يدعو جميع الفرق والفرقاء إلى استخدام
العقل ، النظر العقلي في الكشف عن سبب الجهل والتخلف الذي أصاب الأمة
العربية ، وكأنه يعتبر أن قراءة / تحصيل العلم والمعرفة - بالحدس الصوفي -
أي بالكشف والمشاهدة لا تصلح لحلِّ ما حلَّ ويحل بنا من كوارث ، فمرحلة
إثبات وجود الله والتبشير بالإسلام في مجتمع إسلامي ليست هدفاً ولا غاية ،
بل الدعوة إلى طاعة الله ورسوله وتعليم الناس كيف يتقون الله في أنفسهم وفي
أوطانهم ، هي ما يسعى الدكتور محمود عكام إليها مقدراً أن الناس غير
معصومين عن الخطأ .
وردُّنا عليهم يجب أن لا يكون ذا طابع ( عنفي ) فبدل أن نربح ودَّهم نثير
سخطهم وغضبهم علينا .
يقول الدكتور عكام : لا ترويع ولا تخويف ولا سب ولا قتال فإنها أمور
مَنفيَّة في علائقنا ، ولا نريد اتفاقاً يُبرم ( مع أعداء الله ) فإنه
يروّعنا ، يروِّع إسلامنا ، فإسلامنا لا يقر لظالم ظلمه . ثم يتابع معلناً
موقفه بصراحة من العمليات الاستشهادية التي يقوم بها إخوتنا العرب
الفلسطينيين فيقول لهم : وإن إخواننا إذ يقومون بأفعال تروِّع أعداءنا فإن
ذلك من قبيل الاعتداء بمثل ما اعتُدي عليهم لا تجاوز فيه ولا ظلم . ولذلك
يا إخوتنا في الأرض المحتلة : بارك الله بكم ، وأنتم تتابعون المسيرة ،
مسيرة الجهاد لأعداء الله لمن روّعونا ، لمن روَّعوا الأبرياء ، لمن أقاموا
على أرض ليست لهم .
المثير في معظم خطب الدكتور محمود عكام في كتابه فكر ومنبر والتي بلغ عددها
خمسة وثلاثون خطبة أن القارئ لها يلمس دون عناء فكري تحمّسه لقضية العرب
والمسلمين الأولى ، قضية فلسطين ، فهو لا ينأى ولا يكفّ كعابد ورع وفقيه
عالم من الانتصار لفلسطين ولعرب فلسطين ولأرض فلسطين ، ولم لا ؟ وهي قضية
القضايا ، فالوعي الديني إذا لم يخدم الوعي القومي .. ماذا يخدم ؟!
النفوذ الإمبريالي العولماني الذي يتحدى كل القوميات والإثنيات
والأيديولوجيات وحتى الديانات التي يربي فراخها حتى تسمن ، فإذا به يأكلها
كما حصل في كثير من المناطق على وجه هذه الدويرة الأرضية ، آخرها حالة (
أفغانستان ) ماذا يعني ؟ ألا يعني أنه ( الدين ) الجديد ، المشروع الجديد
لإلغاء التاريخ ، وإلغاء اختمارات شعوبه المنكوبة بثورات تُولَد شائخة -
الدكتور محمود عكام يدرك ، بل ينمي الشعور الوطني والقومي ، يحفزه ، ينشطه
عند الفرد ، عند الإنسان العربي . فكلمة ( قوم ) وكلمة ( وطن ) هما ذاك
الندى الذي يقطر من القلب على حواس الجسد ليثير شجون الغرام بالمكان ،
بالوطن ، بتلك الحكايات التي كان فيها الفكر الإنساني خارقاً وعظيماً ، ذاك
الفعل الذي نسج حكاياته أبطال مثل محمد ( ص ) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي
وبلال وعمار بن ياسر وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وأبو ذر الغفاري
.. وأيضاً أولئك الشهداء ( الرجل المتفجر ) في المكان والزمان الفلسطيني
الذين ما ينفكون يرعبون العدو الصهيوني يرعبون أعداء الله ورسوله .
في فكر ومنبر للدكتور عكام كما في كل نتاجه الفكري الديني يُذكرنا بذاك
المثلِ الذي كان يقوله المَسجديون الذين كانوا يلزمون مسجدي البصرة والكوفة
للتعلم : من تمنى رجلاً حسن العقل وحسن اللسان وحسن العلم تمنى شيئاً
عسيراً . والدكتور محمود عكام أعتقد أنه هو ذاك العسير الجريء الذي يؤرقه
ما يحل بأمتنا من كوارث / فلا يتفرج .
أنور محمد
التعليقات