آخر تحديث: الجمعة 29 مارس 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
من أجل بناء السلوك القويم

من أجل بناء السلوك القويم

تاريخ الإضافة: 2012/06/29 | عدد المشاهدات: 5480

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

يقال الإنسان سلوك، حدّثني عن سلوكك أحدثك عنك، والسلوك يوصف بأنه قويم، وعليك أن تجمع أيها الإنسان بين حُسن التقويم في الخَلق وبين السلوك القويم إذا أردت أن تكون إنساناً تتحقق فيه الإنسانية فالله خلقك في أحسن تقويم فعليكَ أن تسعى من أجل سلوكٍ قويم، أحسن التقويم في الخلق ينبغي أن يُضمّ إليه وأن يُقرن به السلوك القويم.

أيها الإخوة:

عندما يذهب الواحد منا ليعمل في دائرة ما تُطلب منه أوراق، من جملة الأوراق وثيقة حسن سلوك، ولعل بعضكم يذكر، وما أدري إن كان الأمر مستمراً إلى الآن، أن ثمة مادة في الصفوف الابتدائية والإعدادية والثانوية تُسمى هذه المادة بالسلوك، هنالك مواد وفي نهاية هذه المواد مادة تُسمى السلوك...

الآن نحن نريد أن نثبت وأن نأخذ ورقة، هذه الورقة هي ورقة حسن سلوك، فمن الذي سيعطينا إياها ؟ أنا أطلب منكم أن تذهبوا إلى وطنكم وأن تطلبوا من وطنكم هذه الورقة، هل سيعطيك وطنك أيها المواطن ورقة حسن سلوك ؟ حدِّث نفسك بنفسك، وتصوّر أنك رجعت إلى الوطن والوطن أنت، أنت الخصم والحكم، وأنت المحاكِم والمحَاكَم، وأنت المراجِع والمراجَع، تخيل أنك الوطن وتخيل أنك أنت وستطلب من الوطن أن يعطيك وثيقة حسن سلوك فهل سيعطيك الوطن هذه الوثيقة ؟

أنا أقول هذا من أجل أن يلتفت كل واحد منا إلى نفسه قبل أن يلتفت إلى الآخر، ما أظن إذا كنا نريد أن نأخذ من الوطن وثيقة حسن سلوك ما أظن أننا سنحصل على هذه الوثيقة لأننا في سلوكنا لم نكن على مستوى الوثيقة التي ستُعطى إذا كانت الوثيقة ستعطى بموضوعية بأمانة ومن غير واسطة ومن غير تقديم الرشوة ما أظن، لأننا لو نظرنا في سلوكنا لرأينا أننا لا نستحق وثيقة حسن السلوك، فمن منا على سبيل المثال لا يؤذي جاره إن بقليلٍ أو بكثير ؟ فكيف يمكن أن تحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كنت تؤذي جارك إيذاءً بسيطاً أم كبيراً قليلاً أم كثيراً، كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كنا نفتقد النظافة في بلدنا ؟ كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كنا نستهدف الدم البريء ؟ كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كنا نستهدف الفقير من أجل أن يزداد فقراً، إذا كنا غافلين عن الفقراء ؟ كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كان الولد عاقاً لوالديه وإذا كان الوالد مهملاً لأولاده ؟ كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا كان الصغير لا يحترم الكبير وإذا كان الكبير لا يعطف على الصغير وإذا كانت الأمة لا تعرف لعلمائها قدراً ولا حقاً ؟ كيف يمكننا أن نحصل على وثيقة حسن سلوك إذا... وانظروا ما نفعل وما يصدر عنا ؟ أترون أننا نحصل على وثيقة حسن سلوك لمجرد أننا نصلي ؟ لا، يا إخوتي: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي﴾ القضية قضية كليّة، سلوك عام، أترون أننا سنحصل على وثيقة حسن سلوك إذا صمنا رمضان صياماً مادياً وامتنعنا عن الطعام والشراب فحسب، هل سنحصل على وثيقة حسن سلوك ؟ ما أظن، السلوك عام كما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) روى ذلك البخاري ومسلم، فكيف بمن يضع الأذى في الطريق، والأذى في العقول والأذى في القلوب والأذى في الأجسام والأذى في الأعراض ؟ فكيف بمن يضع كل هذا ؟ يا مَن قتلتَ بريئاً هل ستحصل على وثيقة حسن سلوك ؟ لا، ورب الكعبة، يا مَن اعتديت على عرضٍ فانتهكته - مَن كنت - هل ستحصل على وثيقة حسن سلوك ؟ لا، ورب الكعبة.

السلوك القويم مع الخلق الذي هو أحسن تقويم يبلغ الإنسان المنشود، لن أطيل عليكم لكنني أريد أن أذكّر نفسي وإياكم كيف يكون السلوك قويماً، أتريدون سلوكاً قويماً ؟ إذاً هيا فلنتوجه إلى أنفسنا وإلى مَن تربيتهم في أعناقنا، أتوجه إلى نفسي وأتوجه من أجل بناء السلوك القويم إلى مَن تربيتهم أمانة في أعناقنا، يا أيها الآباء ويا أيها المدرسون ويا أيها الضباط ويا أيها الوزراء ويا أيها الحكام ويا أيها المسؤلون ويا أيها الشيوخ إن أردتم بناء السلوك القويم فإليكم كيف يكون ذلك:

أولاً: أسِّس السلوك على الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله إن لم يكن أساساً في السلوك فلن يكون السلوك قويماً وسيكون آنئذٍ السلوك بمعزلٍ عن الإيمان كمن يزرع في أرض رملية، فمن يزرع في أرض رملية لا يمكن أن يثمر، أسس السلوك على الإيمان بالله لأنك إن أسسته على الإيمان بالله فقد ضمنت نية صالحة وغاية نبيلة، والسلوك لن يكون قويماً إلا إذا كانت النية صالحة والغاية نبيلة، إذا أسست السوك على الإيمان بالله حصلت على نية صالحة وخالصة وعلى غاية نبيلة، إن طلبت من الله لتتوجه إلى الله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم.

ثانياً: عليك أن تقوم بالعبادات بوعي، أنتَ تصلي وتصوم وتزكي وتحج، ولكن ما أطلبه منك ومن نفسي أن نقوم بهذه العبادات بوعي، ما معنى هذا ؟ يا إخوتي أنا أريد لمن يصلي أن يصلي بوعي أي أن يعتبر الصلاة سلوكاً رائداً، وسلوكاً أنموذجاً لأفعالٍ تستلزم مراقبة الله لأن الصلاة صلة بالله عز وجل، الصلاة ينبغي أن تكون سلوكاً رائداً لسلوكات أخرى تستلزم مراقبة الله والصلة بالله، أنت لا تصلي فقط ثم بعد ذلك تقطع الصلاة عن سائر الأفعال الأخرى التي تستلزم ما كنت قد حققته في الصلاة، نحن نقول عن الصلاة بأنها صلة بالله، إذاً عليك أن تكون متصلاً بالله في سائر الأفعال التي تستلزم الصلة بالله. وأنتَ تجاهد في سبيل الله استحضر الصلة بالله، أنت تربي أولادك استحضر الصلة بالله وهكذا دواليك، وعلى الصيام أن يكون سلوكاً رائداً لأفعالٍ ولسلوكات تستلزم الصبر والمراقبة لله عز وجل لأن الصيام عبادة سرية فعليك حين تصوم أن تصوم بوعي وأن تستشعر بأن الصيام سيعلمك المراقبة لله كما كنت عليها في الصيام في سائر أفعالك الأخرى حتى إذا ما دعتك امرأة ذات منصب وجمال فلتقل إني أخاف الله حتى ولو لم يكن هنالك من يراقبك سوى الله عز وجل، وكذلك اجعل من الزكاة فعلاً رائداً وأنموذجاً لأفعال تستلزم البذل والتضحية، أنت تزكي أنت تبذل وتطهر نفسك من الشح فاجعل هذه الزكاة أنموذجاً لأفعال أخرى تستلزم التطهر والتطهير من الشح وتستلزم البذل، وطنك يريد منك بذلاً فماذا تبذل للوطن ؟ تريد حقوقك منه ولا تقدِّم واجباتك نحوه، تريد من الوطن أن تعيش براتب عالٍ لكن لا يخطر على بالك ما الذي يجب أن تقدمه لهذا الوطن، الزكاة ينبغي أن تكون فعلاً رائداً وسلوكاً رائداً لسلوكاتٍ تستلزم البذل والتضحية، أنت تزكي فهل تدفع ما سوى الزكاة لأخيك المحتاج: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة) إن الذي فرض عليك الزكاة فرض عليك التعاون مع أخيك: (والله في عون العبد ما دام العبد - وفي رواية - ما كان العبد في عون أخيه) فهل أنت كما قال ذاك الصحابي الجليل أبو الدرداء: "لو كانت الدنيا لقمة ووضعتها في فم أخي لاستقللتها عليه". والحج اجعله أنموذجاً وسلوكاً رائداً لأفعال تستلزم التعاون والتكاتف والتضحية، فهل أنت تقوم بهذه الفرائض بوعي، والوعي يستلزم أن تكون هذه الفرائض عناوين ونماذج رائدة لأفعال أخرى تُطبِّق فيها وتنفذ فيها الغايات التي من أجلها كانت الصلاة والصيام والزكاة والحج.

ثالثاً: عليك أن تكون واثقاً وأنت تقوم بهذا السلوك المؤمن به، ومشكلتنا بأننا مترددون، أنا مؤمن بأن الحق معك لكنني أتردد في أن أعلن ذلك لأنني أخاف، وفي نفس الوقت أقول الله معنا، عليك أن تكون واثقاً لأن المتردد كما تقول الصوفية الفاهمة: ملتفتٌ لا يصل. ونحن في حالة التفات نريد أن نرضي الكل ما عدا ومن عدا الله، نريد أن نتوجه إلى الناس بالإرضاء، كن واثقاً، قالت هاجر زوج سيدنا إبراهيم عليهما السلام عندما تركها وولدها هناك في الصحراء قرب البيت العتيق: آلله أمرك بهذا أن تتركني أنا وإسماعيل ؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. قال عبد الله بن الزبير لأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عندما قالت يا بني امضِ. قال يا أماه أنا لا أخاف من القتل في سبيل الله لكنني أخشى التمثيل والصلب. توجهت أسماء إلى ولدها وقالت: يا بني إن الشاة إذا ذُبحت ما ضرها السلخ، امض إلى ما أمرك الله. 

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة      فإن فساد الرأي أن تترددا

ينبغي أن تكون واثقاً بسلوكاتك لكننا غير واثقين، أتدرون لماذا ؟ لأن سلوكاتنا ليست مبنية ولا مؤسسة على الإيمان بالله وليست بتابعة ولا مقتدية بالفرائض التي نقوم بها بلا بوعي، لكننا إن قمنا بفرائضنا بوعي لكنا واثقين بسلوكاتنا، كلنا يخشى من كلنا لأنه لا يدري هل سلوكه صحيح، يسألني هل سلوكي صحيح أقول له صحيح، ويبقى متردداً، سيدنا بلال رضي الله عنه – ولا أريد أن آتي بالأمثلة البعيدة زمناً عنا لكننا نذكرها لأنهم ساداتنا رضي الله عنهم – عُذِّب وهو واثق بسلوكه وكان يقول مع كل نفَس يصدر عنه: أحدٌ أحد. هل أنت واثق من سلوكك أم أنك ستردّد بمجرد أن تسمع خبراً كاذباً في التلفاز، كلنا يقف أمام التلفاز الآن ليقول له ما الذي تريد منها ؟ يكذب فنصدِّق، يهاجم فنهاجم من يهاجم ليس لنا ثقة بسلوكنا ولا برأينا ولا بأنفسنا ولا بتحركاتنا ولا بسكناتنا.

قال لي أحدهم بعد أن قلت له أنا لا أنظر القنوات الفلانية والفلانية قال لي أنا لا أستطيع وأيم الحق، لماذا لا تستطيع ؟ أتريد أن تستقبل الأوامر والنواهي والأخبار من هنا وهناك وتعدل عن استقبال ما يطمئنك من كتاب الله وسنة رسوله ؟ يا إخوتي ورب الكعبة لو أننا استبدلنا بالساعات التي نقضيها على التلفاز وقتاً لنحفظ القرآن لحفظنا القرآن في ثلاثة أشهر لأنك تخصص للتلفاز في اليوم أكثر من أربع ساعات على الأقل ولو أنك خصصت خلال ثلاثة أشهر أربع ساعات في اليوم لحفظ القرآن لحفظت القرآن، ولكنك متردّد ولست واثقاً بنفسك وهذا يأخذك وذاك يأخذ بك ورابع يوهمك وخامس يلعب بك... وتكاد تستمع إلى فلان القابع هناك وكأنك تستمع إلى وحي أُنزل من عند الله، فاستبدلت بالوحي هذا الذي تسمع فلم تعد تسمع للوحي بل أصبحت تستمع إلى هذا الذي استبدلته بالوحي.

رابعاً: أين منهاجك وأين أسوتك ؟ إن سألتك هذا السؤال فستقول لي من باب النظر والادّعاء أما منهاجي فالقرآن وأما قدوتي وأسوتي فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنني سأسألك سؤالاً آخراً: هل أنت متحقق فعلاً بهذا ؟ إذاً هيا إلى القرآن وأنا معك. أيها المسلمون في كل الأرض تعالوا نبتهل إلى القرآن فورب محمد ما يقوله القرآن نحن معه، وما يقوله سيد ولد آدم نحن معه، ودعونا من أهوائنا ورغباتنا التي نريد أن نلبسها القرآن زوراً وبهتاناً، أنت مسلم وتؤمن بالقرآن منهاجاً وأنا مسلم وأؤمن بالقرآن منهاجاً هيا إلى القرآن، تعال نقضي ثلاث ساعات من أجل أن نفهم الآيات التي ترشدنا والتي تقدم لنا الأحكام اللازمة لهذه الأحوال التي نعيشها، هيا إلى القرآن: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتابٌ مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾ هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهيا إلى القدوة التي ارتضاها ربنا عز وجل لنا، تعال أنا وأنت في أي جهة كنت إن كنت مسلماً فهيا إلى القرآن وهيا إلى سنة النبي العدنان وهيا إلى هذا المنهاج القويم.

خلاصة ما في الأمر: نريد أن نحصل على وثيقة حسن سلوك من وطننا من سورية هذه التي أعطتنا الكثير، فسورية والله لا تستحق - وحاشا - هذا الذي يُفعل فيها، سورية إن كنتم لا تعرفون أو كنتم تعرفون، هي أعرق دولة في العالم كله، سورية - يا إخوتي - احتضنت الأديان كلها وعاش أهلها في أمان وسلام، وما مرَّ على دولة في العالم كله ما مرَّ على سورية وبلاد الشام من أديان، وكانت كل هذه الأديان في هذه البلاد آمنة مستقرة مطمئنة، فما بالنا اليوم لا يطمئن أحدنا الآخر الذي بجانبه، سورية هي سورية لكن أبناء سورية تغيروا، هل تعطينا سورية اليوم وثيقة حسن سلوك ؟ ما أظن.

أسأل العلي القدير الرحمن الرحيم أن يحفظ هذه البلاد من كل مكروه من أي جهة كان، نسأل العلي القدير الرحمن الرحيم أن يجنب أبناء سورية السلوك غير الرشيد، وأن يوفق أبناء سورية على اختلاف توجهاتهم على السلوك القويم من أجل أن يحصلوا منها بجدارة على وثيقة حسن سلوك، وحاسب نفسك أنت أيها الإنسان هل تحصل على وثيقة حسن سلوك من سورية أم لا، أسأل الله أن يوفقنا لنكون كذلك، يا رب ارحم الشهداء الأبرياء، يا رب عليك بكل من يريد بسورية شراً، يا رب وفق كل من يريد بسورية وببلاد الشام خيراً، يا رب مَن كان في أي مكان كان في أي بقعة كان، ومن أراد ببلادنا شراً فاللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، يا رب العباد، إلهي إن لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي، يا رب بحق الثكالى بحق الأيتام بحق الأرامل بحق البكاء بحق الدموع أسألك أن تؤمِّننا في أوطاننا، أسألك أن ترفع الغمة عنا أسألك أن تولي علينا خيارنا أسألك يا الله أن ترحمنا رحمة واسعة، أسألك ان تجعلنا إخوة متحابين متضامنين متباذلين متعاونين لتحقيق الحق وإبطال الباطل، نعم من يسأل أنت ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ 29/6/2012

التعليقات

شاركنا بتعليق