آخر تحديث: الجمعة 19 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
في ذكرى الهجرة

في ذكرى الهجرة

تاريخ الإضافة: 2005/02/11 | عدد المشاهدات: 4273

أما بعد ، فيا أيها الإخوة المؤمنون ، ويا أيها المحتفلون بذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
أقول في البداية : ما الذي يعنيه الاحتفال بذكرى من الذكريات الجميلة العظيمة الرائعة كذكرى الهجرة على سبيل المثال ؟ الذي يعنيه الاحتفال في رأيي هو أمران : الأول أُسميه استحضاراً ، والثاني أُسميه اعتباراً . نستحضر ونعتبر . أما الاستحضار فأن تعيش هذه الذكرى بحوادثها وكيف وقعت من خلال الاطّلاع عليها ، ومن خلال قراءتها ومن خلال معرفتها ، ومن خلال البحث عن تفاصيلها عبر كتبٍ رصدتها ، وعبر مؤلفات سجلتها ، وعبر مجلدات ضمت بين دفتيها تلك الأحداث التي تشكل بمجموعها هذا الأمر الذي نحتفل بذكراه . وسؤالي عند الاستحضار لبني قومي ولإخواني : هل استحضرنا هذه الذكرى من خلال الاطلاع على هذا الحدث العظيم الكريم الشريف ؟ هل فكر واحد منا في أن يأخذ كتاباً في السيرة ليقرأ حوادث الهجرة النبوية وكيف تمت ، ولعلك يا أخي الكريم ومن أجل أن أريحك أقول لك : لو أنك أخذت أكثر الكتب توسعاً في هذا الشأن لما رأيت أكثر من أربعين إلى خمسين صفحة تتحدث عن الهجرة ، وإنك إن سألتني عن الوقت الذي تستلزمه قراءة هذه الخمسين صفحة ، علماً أني لا أدعوك إلى قراءة الهجرة من كتاب موسع ، لكنني أذكر الاحتمال الأبعد ، فلو أنك رجعت إلى أكثر الكتب توسعاً في الحديث عن الهجرة ، وبالتالي لن تستغرق في قراءة هذه الصفحات أكثر من ساعتين ؟ قل لي بربك : هل فَرَّغت ساعتين في يوم عطَّلنا فيه ، لم يذهب الموظف فيه إلى مكان عمله ، أو بالأحرى إن ذهب فأمامه الليل ، هل فرغت ساعتين من وقتك للاطلاع على هذه الذكرى التي تقول أنت بملء فيك : إنك تنتمي إليها وإلى بطلها وإلى صاحبها وإلى من سطَّر حوادثها ، إلى النبي محمد عليه وآله الصلاة والسلام . الاستحضار يعني التعرف ، الاستحضار يعني الاطلاع ، الاستحضار يعني أن تكون على علم بما حدث ، لا على علم تفصيلي ، ولكن لا أقل من أن تطلع على مُجمَل هذا الحدث الكبير من خلال كتاب مضيق ، مختصر ، تقرأ فيه الهجرة النبوية الشريفة عبر أربع أو خمس صفحات ، فهل فعلت هذا يا أخي ؟ ثقوا يا إخوتي ، والمنبر من أجل التناصح والتواصل ، ثقوا أنني استيقظت اليوم باكراً وأمسكت بيدي كتابين في السيرة النبوية وقرأت وقائع الهجرة من الكتابين وقد كان الكتابان يحويان وقائع الهجرة في عشرين صفحة فما استغرق الأمر معي أكثر من ساعة وأنا أقرأ وقائع هذه الهجرة قلت بيني وبين نفسي : ماذا سأقول للناس وأحدثهم عن الهجرة ؟ أجبت نفسي وقلت : عليَّ أن أدعو الناس من أجل أن يقرؤوا الهجرة ، فهنالك فارق بين نقل وبين قراءة وتمعن ، لأنك إذ تقرأ هذه الذكرى أو الحدث ، فإن لم تفهم من المرة الأولى فستعيده ثانية وثالثة وهكذا دوليك . اقرؤوا سيرة نبيكم ، واسمحوا لي أن أقول : إياكم وإياي أن نعتمد على تلفاز أو على إذاعة في تلقي العلم ، فالكتاب هو المصدر الذي تتلقى منه العلم ، لأنك تقرأ مرة ومرتين وتعيد الأمر مرة ومرتين وثلاث مرات ، وقد قلت على هذا المنبر : التلفاز ليس مصدراً للمعلومات فيجب أن لا نعتمد عليه لأنه يُكَسِّلنا ، يبعث فينا كسلاً ، إذ نمكث أمام هذا الجهاز ساعة أو ساعتين وتكون الحصيلة في عالم الفائدة لا تتجاوز ما يمكن أن تحصله بقراءة سطرين في مدة لا تتجاوز خمس دقائق . أريد أمة قارئة .
بالأمس سُئلت من قبل رجل ينتسب لدولة أجنبية ، قال لي : ما نسبة الأمية في بلادكم ؟ أنا لا أعرف هذه النسبة ، وإذ بأحد الجالسين قال : إن نسبة الأمية في سوريا تتجاوز 40 % ، حتى الذين لا يُحسبون من الأميين أعتقد أنهم بهجرهم للقراءة النافعة أضحوا أميين ، لأن عدم الأمية يستلزم متابعة وقراءة مستمرة ، ولا يقولن أحد بأن قراءته ضعيفة ، وأنه خرج من المدرسة في الصف الرابع أو الخامس ، لأننا أمة الإسلام مطالبون بأن نتعلم ونحن الذين نقول للناس إن الإسلام من البداية كان داعياً إلى القراءة فالآية الأولى من القرآن الكريم ( اقرأ ) وربنا عز وجل قال :
﴿ وقل رب زدني علماً طه : 114 وربنا عز وجل قال : ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون نحن نقول للناس هذا الكلام ونحن الذين نقول أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الطبراني : " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " هكذا نقول للناس ولكن حالنا لا يسعف قالنا ، ولكن وضعنا لا يسعف ادّعاءنا ، فالادعاء عريض والواقع مريض . لا تنتظرن يوم الجمعة من أجل أن تسمع الخطيب يحدثك عن الهجرة ، بل عليك أن تبادر وأن تُحضِّر لِما يمكن أن يقوله الخطيب حتى تكون متلقياً جيداً . نحن نقول لطلابنا : حضروا الدرس القادم حتى يكون التلقي قوياً من قبل المدرس . ويفرح المدرس إذا ما أتى الطلاب وقد حضروا الدرس الذي سيُعطى لهم فلماذا لا نطبق هذا على الأقل في المناسبات ، ونحن على شبه يقين أن خطيبنا سيتحدث عن الهجرة فلماذا لا نحضر عن الهجرة ، حتى إذا ما تلقينا قاطعنا بين كلامه وبين ما قرأنا فسألنا عن علم ولم نسأل عن جهل ، حتى إذا قال الخطيب مثلاً قصة لم نقرأها في كتابنا الذي قرأنا فيه قصة الهجرة سألنا الخطيب عن مصدر القصة التي جاء بها ، والسؤال مشروع ، لكننا في هذا الميدان أصبحنا هامدين جامدين لا حراك لنا ، ثم بعد ذلك نقول : ما أعظم ذكرى الهجرة !
اسمحوا لي أن أقول : إن كلمة الهجرة تعني انتقالاً إيجابياً . أنا لا أريد أن أحدثكم عن دروس هذا الحدث وإنما أَكِل الأمر إليكم ، لكنني أعلق بخواطر سجلتها من أجل أن تكون موضوع لقائي معكم : نحن نتحدث عن الهجرة ، أَوَليست الهجرة تعني انتقالاً إيجابياً ، عندما تقول : اليوم هو الثاني من محرم لسنة ست وعشرين وأربعمائة وألف ثم تقول بعد ذلك من الهجرة ، فلو سألك إنسان قائلاً : أنت تؤرخ وتتحدث عن الهجرة ، فما الهجرة ؟ هل ستقول له : انتظر حتى نسمع برنامجاً من التفاز ؟ هل ستقول له انتظر حتى يأتي يوم الجمعة ويحدثنا الخطيب ؟ أنت مسلم مسؤول عن مصطلحاتك التي تسجلها بيدك والتي تحض الناس ، أنت تطالب الحكومة ونحن معك في أن تعتمد التأريخ الهجري ، وتقول هذا تاريخنا ، إذا كان الأمر كذلك ، فلو أن الدولة قالت لك : ماذا تعني الهجرة ؟ ما المقصود بالهجرة من حيث الاستحضار ؟ أعتقد أنك ستقف واجماً هامداً ، ثم إن تحدثت عن الاعتبار وقفت جامداً هامداً ، لأن هناك علاقة بين الاعتبار والاستحضار ، ما لم تستحضره لن تعتبر به ، إذا كان الأمر مجهولاً بالنسبة لك ، كيف يكون هذا الأمر اللامعروف عندك موطن ومحل ومرجع وموئل اعتبار ، ومَجْمَع دروس ومَكْمَن عظة ، كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك وأنت تسجل في يومك أو تنظر في روزنامتك تقول : للهجرة ، الرسول عليه وآله الصلاة والسلام قال كما جاء في صحيح الإمام مسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " والجهاد أوسع من القتال ، والقتال بعض القتال ، " ولكن جهاد ونية " فعليك أن تجاهد أي أن تنتقل من وضع سيء كنت فيه
﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين العنكبوت : 69 عليك أن تنتقل من وضع سيء إلى وضع حسن ، من جهل إلى علم ، هذه بعض إسقاطات الهجرة ، أن تتحول من وضع سيء إلى وضع حسن ، فيما يخص العلم ، فيما يخص العدل ، فيما يخص الطاعة لله عز وجل ، فيما يخص الأخوة ، فيما يخص بر الوالدين ، فيما يخص الابتعاد عن المعاصي ، فيما يخص تربية الأبناء ، فيما يخص العبودية لله ، فيما يخص كل القيم التي جاء بها الإسلام ، فالهجرة من عِبَرها أن تنتقل من وضع سيء كنت فيه إلى وضع حسن ، ومن وضع حسن إلى وضع أحسن ، وهكذا وما للترقي انتهاء ، ورسولنا عليه وآله الصلاة والسلام يقول : " من استوى يوماه فهو مغبون " كما جاء في سنن الترمذي ، إذا كان يومك ولو كان جيداً كأمسك الذي كان جيداً فأنت مغبون ، عليك أن تجعل يومك أفضل من أمسك ، وأن تجعل غدك أفضل من يومك وهكذا في ترقٍّ مستمر ، وما للترقي انتهاء ، لأن نبينا يقول عن ذاته : " " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " إذاً فمن أنت حتى يأتي عليك يوم لا تزداد فيه علماً يقربك إلى الله ، والنبي يقول عن نفسه الشريفة الرضية صلى الله عليه وآله وسلم : " فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم " فماذا تقول أنت عن نفسك وأنت تمرر أياماً بل أسابيع بل شهوراً بل سنين ، هلا جلست بينك وبين نفسك لتحدث نفسك عما كنت عليه عام ستة عشر وأربعمائة وألف على سبيل المثال ، أي قبل عشر سنين ، وما الذي حدث لك من تطور إيجابي يقربك إلى الله ، هلا قمت بهذه العملية ، بهذه الموازنة ، أعتقد أن أغلبنا مقصر في توجهه لذاته من حيث جديته في البحث عن تطوراته الإيجابية في خط عبوديته لله ، وفي خط عمله النافع وعمله الصالح ، فالأيام بالنسبة لنا تمر ونقول ما أسرع الأيام . نعم ، إن من لا يعمل فسيستعجل الأيام وسيقول عن الأيام إنها سريعة ، أما الذي يعمل فسيرى الأيام مباركة وواسعة وفضفاضة ، عندما تمرر عشر سنوات من غير إنتاج فلن تشعر بهذه الأيام ، ولن تشعر بهذه السنين ، وستقول لأولادك ولأحفادك كلمة خجولة ، فيها شميم من الخذلان : سبحان الله ! تمر الأيام ولا نشعر . هل قال مثل هذه الكلمة رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام وأصحابه ؟ لم يقولوا مثل هذه الكلمة ، لأنهم كانوا ينتجون ، ومن أنتج لم يشعر بسرعة الأيام ، أما الذي تكاسل واثاقل إلى الأرض فسيقول كلمة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب : سبحان الله ! ما أسرع الأيام .
في ذكرى الهجرة أدعو نفسي وإياكم إلى هجرة إيجابية من وَهَدات الجهل إلى رَبوات العلم ، أدعو نفسي وإياكم إلى هجرة إيجابية من كل رذيلة إلى كل فضيلة مقابلة ، من الكذب إلى الصدق ، من العصيان إلى الطاعة ، من الاستهتار إلى الجد ، من التسيب إلى الالتزام ، من الضياع إلى اللقاء مع الله عز وجل .
وأخيراً : وأنا أقرأ قصة الهجرة مررت على أول خطبة خطبها سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم المدينة في منازل سالم بن عوف ، قلت في نفسي وأنا أقرأ هذه الخطبة : لا إله إلا الله ، سبحان الله ! ما كان أقل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما كان أعظم أفعاله عليه وآله الصلاة والسلام . لو خطب الواحد منا خطبة بعدد كلمات خطبة النبي ، لا أقول كخطبة النبي فلا يمكن لواحد منا أن يقول خطبة كخطبة النبي ، فبين خطبنا وخطب النبي مسافات واسعة شاسعة لا يمكن أن تقدر بأميال ولا بمسافات . قلت في نفسي لو أن الواحد منا خطب بعدد كلمات النبي لتذمر الحاضرون وقال بعضهم : نريد أن نستفيد ، ولكنهم إذ يقولون ذلك يقولون من غير تفكير ، يقولون هذا لمجرد أنهم تعودوا على ذلك لا أكثر ولا أقل . رجعت إلى كتاب فيه خطب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما وجدت خطبة تفوق صفحة ، لكننا أمة ابتلينا بكثرة الكلام وقلة العمل ، بكثرة الجدل ، بالحديث فيما بيننا ، بالاطلاع على الأخبار من ألف إذاعة والنتيجة لا شيء ، المهم أننا نريد أن نطلع على استقالة رئيس الدولة الفلانية في أمريكا الجنوبية ، ثم بعد ذلك آتي إليك لأحدثك عن استقالة هذا الرئيس حتى تعطينا وسام الثقافة ، فأنا مثقف ، أما أن ألتقيك لأحدثك عن الهجرة وتفاصيلها فهذا شيء لا تطاله الثقافة اليوم للأسف الشديد ، ولا يمكن أن أسمى من خلال ذلك مثقفاً ، أضعنا أنفسنا وعقولنا ، وأهدرنا سُعيراتنا وحُرَيراتنا فيما لا طائل تحته ، فيما لا فائدة منه ، ونحن يوم القيامة كما ستحدثنا خطبة نبوية شريفة : حمد الله وأثنى عليه ، ليتني كنت يا رسول الله يومها معك ، فأفوز فوزاً عظيماً ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، أيها الناس : فقدموا لأنفسكم ، تعلمنُّ والله ليُصعقن أحدكم – أي ليموتن – ليصعقن أحدكم ثم ليَدَعن غنمه ليس لها لا راع – الموت يأتيك من غير أن يستأذنك – ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه : ألم يأتك رسولي فبلغك ، ألم أعطك مالاً وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ، ألم يأتك رسولي فبلغك ، وفي رواية وآتيتك مالاً وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك ، فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، لأنه مع ربه ، ولينظرن قُدَّامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة - أين الكلام الطيب بيننا – فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله " هذه خطبة رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام . أيها الإخوة كتبتها بخط إلى حد ما كبير ، ويمكن أن يسميه بعضهم صغيراً فكانت في خمسة أسطر ، هذا كلام رسول الله ، هذه خطبة رسول الله ، فأين نحن يا إخوتي ؟!
آمل أن تكون مثل هذه الخطبة عِظةً كبيرة بالنسبة لنا حتى نحفظ كلامنا إلا فيما ينفعنا ، وحتى نحفظ ألسنتنا إلا فيما يعود علينا بالخير ، فاللهم إنا نسألك أن تكتبنا من المهاجرين بجهاد ، بنياتهم ، بقولهم :
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب آل عمران : 8 نعم من يسأل أنت ، ونعم النصير إلهنا ، أقول هذا القول وأستغفر الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق