التقت مجلة
جيش الشعب، وهي مجلة شهرية عسكرية ثقافية، تصدر عن الإدارة السياسية في الجيش
العربي السوري، مع الدكتور الشيخ محمود عكام في استطلاع حول حلب واختيارها عاصمة
للثقافة الإسلامية.
وقد تحدث الدكتور محمود في هذا الاستطلاع الذي نشرته المجلة في عددها الأخير رقم
1958، لشهر حزيران 2006 عن رؤيته الخاصة لهذا الحدث، وعن أهميته في الظروف الدولية
الحاضرة، وعن دور وزارة الأوقاف والقطاع الديني في فعاليات هذه الاحتفالية.
نص الحوار:
1- كيف تنظرون إلى هذه الاحتفالية: حلب عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2006، وذلك
من منظور الباحث في الفكر الإسلامي، ومن منظور ابن حلب ؟
- هي فرصة كبيرة وممتازة من أجل تجلية الفكر الإسلامي في مظهره السلوكي، لأن
الثقافة تعني – بالنسبة لي – تحويل المعطيات المعرفية القيمية إلى سلوك. وبناء على
ذلك:
فالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية ما هما – في النهاية – إلا نظرية وتطبيق. وها
نحن أولاء في حلب ندعو الناس في هذه السنة، سنة: حلب عاصمة
للثقافة الإسلامية إلى رؤية حلب وهي تتعامل مع الإسلام ومعطياته تطبيقاً وتنفيذاً
في الماضي والحاضر، كما ندعو في الوقت نفسه مسلمي حلب ومواطني حلب إلى إراءة الناس
الجديّةَ في التعامل السلوكي مع معطيات الإسلام القيَمية من تسامح وتعاون ومحبة
وتعاضد وما إلى ذلك من قيم اجتماعية عظيمة جميلة رائعة.
كما إننا نتوجه أيضاً إلى أرباب القلم والسياسة في حلب ونناشدهم من أجل أن يتعاونوا،
وعلى كل طرف منهم تقديم ما يتعلق باختصاصه؛ فأرباب العلم يحققون الإنتاج الفكري
الذي صدر عن حلب سابقاً ويجتهدون في كتابة ما يجب كتابته وإظهاره للناس عن الإسلام
ومناسبته للإنسان ديناً وشريعة وعقيدة. وأما أرباب السياسة
والسلطة فما عليهم إلا أن ينفذوا بأمانة وصدقيّة وجد.
وإذ أتحدث عن الاحتفالية من منظور كوني ابن حلب، فأنا الذي أتوجه إلى أبنائها راجياً
وقائلاً:
يا أبناء حلب برّوها واخدموها، فحلب مدينة عريقة أصيلة قديمة، وقد أعطتنا الكثير من
المجد والاعتزاز إذ نُسبنا إليها وانتمينا إلى جغرافيتها، فكونوا لها كما كانت لكم.
وقد آن الأوان من أجل أن يطالب أهلها بحقوقها مطالبة جادة، وكذلك من أجل أن
يتعرفوا على واجباتهم نحوها فيقوموا بها ويؤدوها خير تأدية.
2- ماذا يعني لك اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2006، وذلك بعد مدينة
مكة المكرمة ؟
- لا شك في أن حلب تمتلك مكانة رفيعة بين المدن الإسلامية
الكبيرة المعروفة المشتهرة، وهي دُرّة
من درر بلاد الشام التي تشكل – أي بلاد الشام - مع مكة المكرمة والمدينة المنورة
محوراً مقدساً سامياً يتجاوز حدود الجغرافية وقضيتها، ليكون على المستوى الحضاري،
وقد أريد له أن يكون مجرد حالة دينية ضيقة تتحرك في هامش الخصوصيات الإسلامية
الذاتية الغارقة في الصراعات الصغيرة، وأن يُعزل عن كل مواقع القوة ويُبعد عن مواطن
القداسة الروحية المتمثلة في خصوصيته المنفتحة على كل قداسات الديانات الإلهية.
وحسبنا أن نذكر هنا قول الله عز وجل: ﴿سبحان الذي أسرى
بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله﴾،
وما حلب والشام إلا هاتيك الأرض المباركة.
ولئن
اختيرت مكة المكرمة السنة الفائتة عاصمة للثقافة الإسلامية، فأجدِر وأحرِ ببلدة
عريقة ومدينة تضم شواهد كل العصور الإسلامية المتتابعة أن تكون العاصمة المختارة
بعد مكة المكرمة.
يا ناس:
حلب هي دارة التواصل بين الشرق والغرب، ونقطة اللقاء بين أوربا والعرب، ومعبر ثقافة
الشرق إلى الشمال والغرب.
وحلب هي حلب إبراهيم عليه السلام، وحلب أبي عبيدة
، وصلاح
الدين
، وسيف الدولة
، و...
فليس العجب أن ت
ُختار عاصمة للثقافة الإسلامية بعد مكة
المكرمة، بل العجب ألا تُختار.
3- ما هي الأسباب – بنظرك – التي دفعت لاختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية ؟
- لهذا اختيرت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.
إضافة وزيادة على ما ذكرنا آنفاً في الإجابة على السؤالين السابقين فإن هذه المدينة
تعد من أقدم المدن المأهولة في العالم، سكنها الإنسان في الألف العاشرة قبل الميلاد
وربما قبل ذلك. وتتابع البناء والإعمار فيها، وكذلك النشاط الإنساني المتنوع من
سياسة إلى اقتصاد إلى اجتماع إلى ... أمور كثيرة.
ولعل
النقاط المهمة في سجل هذه المدينة أنها كانت خلال مدة غير قصيرة نقطةَ تواصل فعال
بين الشرق والغرب، وهي المدينة التي ظلت حتى أيامنا مثالاً ناصعاً لتعايش الأديان
والقوميات المختلفة وتعاونها، وهذا ما حضّ عليه الدين الإسلامي الحنيف، دين أغلب
الحلبيين، عبر نصوصه القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة، كقول الله عز وجل:
﴿وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم
﴾، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقِ
الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
نعم. لقد بقي المجتمع الحلبي المكون من هذه الفسيفساء الدينية والقومية الواسعة
أنموذجاً للمجتمع المتآلف المتسامح، فلم تشهد حلب عبر تاريخها الطويل ما يشبه تلك
الفتن والحروب الدينية والقومية التي وقعت في أمكنة أخرى من العالم أمس واليوم.
وحلب هي – كما ألمحنا ونصرّح هنا – المدينة الإسلامية الوحيدة في العالم التي تضم
تراثاً عمرانياً يمثل كل المراحل الإسلامية، ابتداء من جامع "الشعيبية" الذي شيّد
في السنة السادسة عشرة للهجرة، ومروراً بالآثار الشاهدة على العصور الأخرى
المتتابعة من أموية وعباسية وفاطمية وزنكية وأيوبية ومملوكية وعثمانية...
وحلب أنجبت أدباء ومفكرين ومؤرخين أناروا مجالات اختصاصهم عالمياً وإقليمياً، فهل
يُنسى: الصنوبري والأصفهاني وأبو فراس والفارابي وابن جني و ... ؟
4- ما أهمية هذه الاحتفالية في هذه المرحلة، لاسيما في ظل الأوضاع الدولية التي
أصبحت فيها أصابع الاتهام تشير دائماً إلى وصف الإسلام والإسلاميين بالإرهاب ؟
- نأمل أن تكون هذه الاحتفالية فرصة تسنح وتسمح لنا
بتقديم الإسلام الصحيح من خلال نصوصه الأساسية القرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك
عبر وسائل الإعلام المتنوعة الناقلة لهذه الاحتفالية، وكذلك لأولئك الآتين سياحةً
وزيارة إلى حلب، ومع هؤلاء وأولئك الكتاب والباحثون الذين جاؤوا محاضرين ومنتدين في
أكثر من ثماني ندوات دولية وأكثر من مئة وستين محاضرة.
على أننا إذ نقد
م الإسلام الصحيح فإن ذلك سيكون في
مواجهة فئتين اثنتين:
الأولى: تلك الفئة المتزمتة المتعصبة التي تعرض الإسلام ديناً ضيقاً حابساً أنفاس
أتباعه، لا يعرف التسامح ولا التعايش، بل كل همّه: تكفير هذا وتفسيق ذاك، والحكم
على ثالث بالمروق، ... و ...
والفئة الثانية: هم أولئك الذين يميلون مع الهوى ورغبات الآخرين فيجعلون الإسلام
ديناً لا قوام له ولا شخصية، بل هو الدين الذي يُرضي ويوافق ويمالئ، بل وحتى ينافق،
فلا يترك ذا سلطة إلا ويسوّغ له، ولا يجاوز ذا هوى إلا ويسارع في هواه، فالإسلام
عند هذه الفئة بسمةٌ مجاملة وكلمةٌ مرائية وموافقةٌ على كل الامتدادات الإنسانية
اللامشروعة. وهكذا.
الإسلام – يا ناس – لا هذا ولا ذاك، بل هو دين ينطوي على عقيدة وشريعة وأخلاق، يجد
الباحث عنه كل ذلك في كتاب كريم هو القرآن الكريم، وفي شخصية رائدة هي الرسول
العظيم صلى الله عليه وآله وسلم.
الإسلام دين الوسطية فلا إفراط ولا تفريط. الإسلام دين العدالة والحرية والفضيلة
والعلم والمعرفة والوطنية والإنسانية، فلنسعَ لتقديم هذا الإسلام في هذه الاحتفالية.
والله من وراء القصد.
5- ما هي الجهود المبذولة في وزارة الأوقاف لإنجاح الاحتفالية وإظهار حلب بالمظهر
اللائق بها كعاصمة للثقافة الإسلامية ؟
- وزارة الأوقاف هي إحدى الوزارات التي سُميّ وزيرها
عضواً في اللجنة العليا لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.
فهي معنية بالأمر رسمياً، وهي أيضاً مسؤولة عن قطاع طويل عريض في المجتمع هو
قطاع الدين الإسلامي ومجالاته وتجلياته من مساجد ومعاهد ومعابد ومكتبات ونشاطات.
وقد صدرت توجيهات عن الوزارة ترمي إلى تفعيل القطاع الديني ضمن مسار حلب
عاصمة للثقافة الإسلامية، من رعاية ندوة دولية ومحاضرات عديدة، وتشكيل لجنة في حلب
من عدد من السادة أهل العلم، يتابعون عبر لجنتهم تنفيذ الخطة العامة للاحتفالية،
والمتعلقة بالمساحة الدينية، ولهذه اللجنة ممثل في الأمانة العامة هو الدكتور محمود
عكام.
وها نحن أولاء في هذه اللجنة قد أعددنا خطط الترميم وباشرنا في تنفيذها، وبرامج
العلم والمعرفة، وحققنا ما قد كان منها في الأشهر السالفة، ونظمنا مهرجانات متنوعة
إنشادية وإرشادية، وأعدنا الوطنَ مفردةً هامة وهامة جداً إلى خطابنا الديني وخطبنا
الأسبوعية ودروسنا...
كما قمنا – من خلالي – بتقديم مقترحات علمية وثقافية إلى الجهات المعنية، ولعل أهم
هذه المقترحات هو السعي لإقامة وإنشاء جائزة عالمية باسم "جائزة حلب عاصمة للثقافة
الإسلامية الدولية للثقافة الإسلامية".
أملنا في النهاية أن نتماهى مع الوطن، لنكون الوطن ويكون الوطن إيانا، ومن لا وطن
له يحميه ويداريه فكل فكره نظري غامض غائب عن الواقع.
واسمح لي يا أخي أن أقول عن حلب في نهاية المقابلة:
حلب مدينة
نحبها وتحبّنا
حلب في القلب والقلب في حلب
واللهمَّ حلب، ثم حلب، ثم حلب.
د. محمود عكام
حلب في: 16/5/2006
أجرى الحوار: الصحفي عدنان أحمد.
التعليقات