آخر تحديث: الأربعاء 17 إبريل 2024
عكام


خطبة الجمعة

   
شروط الكلمة المؤثرة

شروط الكلمة المؤثرة

تاريخ الإضافة: 2008/02/22 | عدد المشاهدات: 4661

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:

بالأمس كنا في اجتماعٍ مع إخوة لنا يُدرِّسون في كليات التربية، وكان أيضاً إخوة لنا يعملون في التوجيه في سلك التربية، وتناولنا فيما تناولنا حديثاً عن كلمةٍ تأخذ فعلها وتنتج أثرها في عالم التدريس، لأن الإشكالية، كما قال الحاضرون: أن الكلمة لم تعد تؤثر، ولم يعد التدريس فاعلاً فعلته الطيبة في نفوس الطلاب. وشكوتُ لهم أيضاً بأن الأمر ينسحب حتى على من يكون في المساجد، فالدروس الوعظية كثيرة، والكلام كثير، لكن هذا الكلام لم يعد يأخذ البعد الذي يجب أن يأخذه من حيث تغيير الواقع نحو الأفضل. المهم أننا عرضنا المشكلة، وبعد عرض المشكلة تحدثنا عن الكلمة التي تُلقى في درس أو نصيحة في مسجد أو جامعة، في دعوة إلى الله عز وجل، وأعتقد أن جمعينا ليس فقط أولئك الذين اجتمعوا، ولكن هذا يسري على كل المسلمين، فما منا من أحد إلا ويمارس نصيحة في بيته على سبيل المثال أو دعوة أو تدريساً ولو كان غبر مدرِّس، ولو كان غير شيخ أو موجه، لكنه يمارس مثل هذه الصلاحيات في بيته، في أسرته، في معمله، في دائرته، في دكانه، في متجره... كلنا مشروع مدرِّس إن لم نكن مدرسين فهي هواية، وهذه الهواية نستشعر ضرورتها وفرضيتها أحياناً. أقول هذا من أجل ألا تكون خطبتي اليوم موجهة إلى فئة دون فئة، بل الخطبة موجهة إلى كل أفراد وأصناف وأطياف المجتمع، المهم: أننا في نهاية الاجتماع وصلنا إلى شروط الكلمة من أجل أن تكون هذه الكلمة مؤثرة، ولا أعني بمؤثرة التأثير العاطفي العابر ولكن أعني التأثير الثابت المحرك للفعل على أساس من مضمون هذه الكلمة الموجهة.

قلنا، وها أنذا أعرض عليكم هذا الذي تداولنا، قلنا من شرط الكلمة:

أولاً: أن تكون منطقية: أنا أسمع كثيراً إلى الذين يدرِّسون عبر القنوات الفضائية فلا أرى منطقية في كلماتهم ولا في توجيهاتهم، فالشرط الأول في الكلمة من أجل أن تؤثر التأثير المطلوب وأن تنتج التغيير الإيجابي المرغوب أن تكون منطقية، وكلمة منطقية تعني أن تكون الكلمة صادرة عن منظومة معرفية متماسكة، الله عز وجل قال: ﴿اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً﴾ قولك الذي يصدر عنك وأنت توجّه أو تنصح، وأنت تدعو أو تُدرِّس، يجب أن يكون قولك سديداً منطقياً صادراً عن نظام معرفي متماسك. سأذكر لكم قصة حسبما جاء عند ابن خزيمة، والقصة ذكرتها على المنبر أكثر من مرة. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدعى حُصيناً، وهو والد عمران الصحابي المعروف، وكان حصين آنذاك كافراً، جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد حواره، فحاوره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا حصين كم من إلهٍ تعبد ؟) قال حصين: سبعة في الأرض وواحداً في السماء. قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حصين، إن أصابك ضرٌ من الذي تدعو ؟) قال الذي في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يستجيب لك وحده، وتشركهم معه !) منطق يتناسب وهذا الإنسان. وقف حصين وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن ورائي قوماً – وكأنه يقول أتريد أن تتعرف على حقيقتي، أنا أعرف أن كلامي غير منطقي، ولكن ورائي قوماً وهؤلاء هم الذين دفعوني من أجل هذه المناقشة التي لا تمتُّ بالنسبة لي إلى منطق – فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حصين عد إلى قومك، وقل: اللهم إني استهديك لأرشد أمري، وأسألك علماً ينفعني). الكلمة يجب أن تكون منطقية، يؤسفنا أن كلام المعلمين والأساتذة القائمين على تدريس التربية الإسلامية، ولا أتكلم بشكل عام، والقائمين على تدريس اللغة العربية والعلوم الإنسانية يتوجهون أحياناً بكلامٍ غير منطقي، وبالتالي لن يجدوا هذا التأثير المنشود لأنهم لم يتكلموا عن نظام معرفي متماسك، إذاً الشرط الأول للكلمة المؤثرة تأثيراً إيجابياً فاعلاً محفزاً نحو تغيير أفضل: أن تكون منطقية صادرة عن نظام معرفي متماسك.

الشرط الثاني: أن تكون الكلمة مناسبة للشخص، مناسبة للظرف، مناسبة للعلم والمعرفة، للزمان والمكان، أنا لا أريد من هذا الذي يقف على المنبر حينما يتحدث عن زلزالٍ وقع في أمريكا أن يقول إن سبب الزلزال معاصٍ ارتُكبت في أمريكا، أيها الأخ المتكلم: إن كان الأمر كذلك فلماذا تحصل الزلازل في بلاد إسلامية، يُشكل الإسلام فيها نسبة مئة بالمئة ؟ هل لهذا السبب أيضاً ؟!. (حدِّث الناس بما يعرفون) هكذا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري عن سيدنا علي كرم الله وجهه (أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله ؟) لتكن الكلمة المناسبة للشخص الذي تكلمه، للظرف الذي تعيش فيه، للمكان الذي تشغله، وإلا فلن تكون لكلمتك الآثار المرجوة، اتق الله وقل قولاً سديداً.

الشرط الثالث للكلمة من أجل أن تؤثر: أن تكون خالصةً لا غرَضية فيها، هنالك أناس ينصحون، ولكن الغرض من النصيحة منفعة شخصية لهم، هنالك أناس يدعون، يريدون من وراء الدعوة إلى الله ظهوراً، ويريدون منافع مادية بحتة، ولكنني أتوجه إلى نفسي وإلى كل الذين يتكلمون، وإليكم، لأنكم جميعاً متكلمون، أتوجه إليكم من أجل أن تكون الكلمة خالصةً لا غرضية فيها، صادقة لوجه الله عز وجل الذي يحب منا أن نعمل عملاً مخلصاً لا شائبةَ فيه، ولا شك فيه ولا اختلاط في النيات فيه، ربنا يحب منا الإخلاص لأن المخلصين مصابيح الهدى في وقت تنطفئ فيه كل المصابيح الأخرى، المخلصون مصابيح تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء، لما قال ربي عز وجل: ﴿وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً﴾ أي يبلغهم، يصل إلى قلوبهم، ولن يصل الكلام إلى القلب إلا إذا كان صادراً من القلب، وإلا فلن تحصد من كلمة خرجت من الشفة وتبتغي من ورائها منفعة قريبة مادية لن تحصد هذه الكلمة أي أثر ينفع الناس، بل بالعكس ربما حصدت أثراً ضاراً عليك وعلى مجتمعك الذي تعيش فيه وكانت الكلمة حجة علينا وسنحاسب عليها، لأننا أخرجناها بلبوس لا يليق بها، إذ الأصل في الكلمة أن تكون محترمة وصادقة ومقدسة، فما بالنا قد ألبسناها لبوس الكذب والخداع والنفاق والمداهنة وعدم الإخلاص.

الشرط الرابع للكلمة من أجل أن تؤثر إيجابياً: أن تكون حسنة الأسلوب، ﴿وهُدوا إلى الطيب من القول﴾ لتكن كلماتك حسنة الأسلوب، عليك أن تنتقي الكلمات اللطيفة، عليك أن تنتقي الكلمات الرفيقة، عليك أن تنتقي الكلمات الرقيقة، (إن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) قالوا: يا رسول الله: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال: (المتكبرون). هكذا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الترمذي. فالثرثارون والمتشدّقون هم الذين يتكلمون بشكل جيد غير أنهم لا يلتفتون إلى معنى ولا إلى شيء يريدون أن يوصلوه إلى الآخرين.

مشكلتنا أننا متكبرون، مشكلتنا أننا نتكلم في تكبر حتى إذا ما أراد الواحد منا مسؤولاً كان أو غير مسؤول أن يتكلم بتواضع استهجنا منه هذا لأننا تعلمنا أن يتكلم ذو السلطة بتكبر، لأننا تعلمنا وعلمنا من يتكلم وهو صاحب سلطة أن يكون متكبرا، استخفَّ قومه فأطاعوه، إن كلام أي متكبر مهما كان المنصب الذي يشغله مرفوض ورب الكعبة، أيها المسؤولون عن أفكار الناس، أيها المسؤولون عن معايش الناس، أيها المسؤولون عن حياة الناس، أيها المسؤولون عن فكر الناس، عن معرفة الناس كلموا الناس وأنتم متواضعون وإلا فليس لكلامكم أي أثر.

مشكلتنا في عالمنا العربي والإسلامي أن المتكلمين من ذوي السلطة على أي نوع كانت هذه السلطة، إن كانت سلطة سياسية أو دينية أو اقتصادية فإن المتكلمين من هؤلاء السلطات الثلاث يتكلمون بتكبر، فيا هؤلاء كلامكم ليس بمقبول، تكلموا وأنتم تُشعرون مَن أمامكم بأنكم تحبونهم، تكلموا أمام من أمامكم بلغة محببة حاولوا أن تكونوا قريبين إن كنتم تريدون لمجتمعاتكم التغيير والتبديل، سبحان الله تعرف الإنسان عندما يكون أستاذاً مثلاً، عندما يكون موظفاً عادياً، ينتقل إلى منصب أعلى، إلى مكان أرفع، تسمعه بعد إذ بلغ ما بلغ من المناصب والمسؤوليات وإذ بالكبر يتساقط من كلامه تساقط المطر من سحاب ملئ مزخم بالماء والمطر، يكلمك كما يقال وأنفه لا يكاد يتسع له المكان الذي هو فيه، لماذا ؟ لم يعد لدينا أي جرأة من أجل أن نكلم مسؤولاً عبر الهاتف، لا يمكن أن يتكلم معك مباشرة فإذا ما كلمك تشعر أن السماء قد رضيت عليك، ستكلم الناس حولك، اليوم كلمني المسؤول الفلاني واليوم كلمني الشيخ الفلاني واليوم كلمني التاجر الفلاني... وما حولك يسألك متأكدين فلان نفسه ! تقول لهم: نعم وأيم الحق، كلمني فلان.

يا أيها الموجهون من عالم الاقتصاد أو التربية أو الدين: إياكم والابتعاد عن الأسلوب الحسن في الكلمة التي تصدرونها للآخرين، اقرؤوا سيرة هذا الرجل العظيم، لا نذكره على أنه رسول فحسب، ولكن وأيم الله اقرؤوه ولو كنتم غير مسلمين، وانظروا كيف كان يخاطب الناس، القوي والضعيف الفقير والغني صاحب المنصب والذي لا منصب له، انظروا إليه إلى كلامه إلى رفقه بأمته إلى رفقه بالجماد إلى رفقه بالشجر والحجر إلى رفقه بالحيوان، فيا أمة الإسلام يا أيها الموجهون هلّا عودة إلى رحاب الكلمة المصطبغة بالأسلوب الحسن: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون).

الشرط الخامس: أن تكون الكلمة خفيفة مُحتَملة. لا نريد أن نخطب على الناس خطاباً مملاً، لا نريد أن نكلم الناس كلاماً يتجاوزهم، ولا نريد أن نبقي الناس أمامنا ساعاتٍ من أجل ننهال عليهم ونمطرهم بالكلمات القاسية تارة، والمهددة تارة أخرى، وغير المُفهَمة تارة ثالثة. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في البخاري يتخوّل أصحابه بالموعظة مخافة السآمة.

قال لي بعض الإخوة لِمَ لم تعطنا اللطيفة القرآنية ؟ قلت له ويشهد الله لأنني أتخول نفسي وإياكم بالموعظة مخافة السآمة، فأنا في كل جمعة أقول اليوم أطلت الخطبة بعض الشيء، سأجعل وقتها على حساب اللطيفة، وسأؤجل اللطيفة لوقتٍ آخر، لا أريد للذي أمامي أن يعيش لحظة ملل لأن الكلام إذا كان مؤدياً إلى ملل ستكون العاقبة عكسية ولن تكون تلك التي تبتغيها وتحرص عليها.

أخيراً: من شرط الكلمة حتى تكون مؤثرة أن تكون مدروسة غير مرتجلة. قال أحد حكماء الغرب اليوم، وقد قيل له ما الفرق بين الأمة المتحضرة والأمة غير المتحضرة ؟ أجابهم: الأمة المتحضرة تفكر ثم تتكلم، والأمة غير المتحضرة تتكلم ثم تفكر. وشتان بينهما لأن التفكير الثاني تفكير ندم، أما التفكير الأول فتفكير دراسة وإنتاج وإرشاد وتوجيه.

آمل من كل إنسان ولو كان أباً أو مدرساً أو مديراً أو عاملاً أوموجهاً أن يكون كلامه مدروساً، آمل من نفسي وأنا لا أوجه الكلام لكم، ويشهد الله أوجه نفسي، وأرجو وأنا أتكلم معكم أن أكون الموَجَّه الأول وأنا أتكلم، آمل أن تكون الكلمة مدروسة وغير مرتجلة لأننا نريد أن نفكر قبل أن نتكلم، وكنت صغيراً فسمعت قولاً منسوباً للإمام علي أو لغيره، وبغضِّ النظر عن قائله كان أحدهم يقول: أتمنى أن تكون لي رقبة كرقبة الجمل، حتى أجعل الكلمة قبل أن تخرج تمرّ في تلك القناة الطويلة، ثم إذا خرجت خرجت وأنا غير نادم عليها.

هلا درسنا كلامنا قبل أن نتكلم، آمل أن نكون كذلك، اللهم اجعل كلامنا من أعمالنا، واجعل كلامنا سديداً، اللهم سدّد الكلام والفعل والحركة يا رب العالمين، نعم من يسأل أنت، ونعم النصير أنت، أقول هذا القول وأستغفر الله.

ألقيت بتاريخ: 22/2/2008

التعليقات

محمد عثمان

تاريخ :2008/02/29

بسم الله الرحمن الحيم والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله ومن تبعهو اقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد : فإنني أتقدم بالشكر العميق لفضيلة أستاذي وحبيبي الدكتور محمود عكام على هذه الأفكار النيرة والمفيدة سائلاً المولى جل جلاله أن يمد في عمره وأن يفتح عليه ويثبته بقول الحق دائما.

عمر محمود العثمان

تاريخ :2008/03/02

معلمي الذي افتخر بتتلمذي على يديه.كنت ولا زلت رمزاً لعلم نافع وأسلوب رائع ومضمون جامع. أسأل الله أن يزيدك علماً وعملاً ويجعلك من المقربين إليه.

هناء عريان

تاريخ :2008/03/05

سلام الله عليك أيها الأستاذ الجليل وبورك قولك وعملك نشهد أنك المقنع فعلاً, قبل القول وبعد القول.. تقبّل الله منك وزادك بسطةً في العلم والعمل. وأمتنا ماتزال بخير ما دمت وأمثالك فيها.

شاركنا بتعليق