آخر تحديث: الأربعاء 17 إبريل 2024
عكام


أخبار صحـفيـة

   
حوار مجلة الحرية الصادرة في قبرص

حوار مجلة الحرية الصادرة في قبرص

تاريخ الإضافة: 1990/04/15 | عدد المشاهدات: 4630

العددان 356 و 357 نيسان 1990

الحرية : هل بات مستحيلاً أن نشهد حواراً ما بين " الأصولي الإسلامي" و " العلماني " ؟ وهل بات مستحيلاً على الفكر العربي أن يشهد في لحظة المعاصرة حواراً ما بين " الأصولي الإسلامي " و " العلماني " يستذكر ذلك الحوار الشيِّق ما بين محمد عبده وأنطوان فرح . وبمعنى آخر: إلى أي حد يمكن فيه لمثل هذا الحوار أن يقوم فعلاً ويؤثر في الوعي الاجتماعي خارج عقلية " التكفير " المتسلطة على الخطابين الأصولي والعلماني التقدمي في آن واحد ؟ فالعقلية " الأصولية " التي لا ترى في الخطاب " التقدمي " سوى خطاب " كافر " ، " مرتد " لا تختلف في آليتها المعرفية، بالمعنى الابستمولوجي للكلمة، عن العقلية " التقدمية " التي لا ترى في الخطاب " الأصولي " سوى خطاب " رجعي "، " ظلامي" " عميل " ... الخ . والعقلية " الأصولية " التي تشترط على " التقدمي " أن يسلّم مسبقاً بقدسية الخطاب القرآني، وعصمته النهائية المطلقة، لا تختلف في جوهرها المعرفي عن العقلية " التقدمية " التي تشترط على " الأصولي " أن يسلم مسبقاً بأولوية المادة على الوعي . مثلاً، لقد آن الأوان لكي ينتقل الخطاب " الأصولي " والخطاب " التقدمي " من علاقة الصمم إلى علاقة الحوار، وأن يتعرَّف كلٌ منهما بشكل حقيقي ومباشر على الآخر، فالحوار الندِّي المتكافئ ما بين الخطابين الإيدولوجيين الأساسيين في الثقافة العربية الراهنة لن يمنع الخلافات المعرفية الأساسية ما بينهما، ولكنه سيتيح لهذه الخلافات أن تتحاور فيما بينها على نحو " ديمقراطي " وليس على نحو " تكفيري " تسلطي .
د. عكام : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد :
المبدأ أولاً حوار، والحوار منهاج، وما من إنسان دعا لمبدأ ، إلا واستعد لحوار مفتوح له، تطميناً لنفسه، ودعوة لغيره . ولا يعدو " المسلم " أن يكون من مشمولات هذه القضية ، وكذلك غير المسلم مهما كانت صفته ، حين يكون ملتزماً، أعني أنه ينطلق في حديثه وسلوكه من تصور شامل للحياة ، وهنا أحبُّ أن أسجل رفضاً لمصطلح " العلماني " مقابلاً " للمسلم " ذلك أنني أربأ بـ " المسلم " مجانباً لمادة ( ع ل م ) ، مهما كان تركيبها ووزنها الصرفي واللغوي ، اللهمَّ إلا إذا أريد لها مضمونٌ لا يتناسب ودلالاتها الأصلية ، أو المجازية التي ترتبط بالأصلية بعلاقة أساسية ، أو كانت ذات دلالة مخصوصة ، مظروفة بوقت تختلف معطياته وسماته عن الظرف الذي نطرحها فيها ، أو وضعت في مواجهة طرف تغير بعدها هذا الطرف ، وأُبدل به طرف لا يشبهه ولا يماثله ، فالعلمنة في الغرب موقف لا يمكن تبنِّيه في الشرق ، لعدم وجود مقتضيات مماثلة وبواعث مشتركة ، لأنها كانت في مواجهة دين يختلف شمولاً وصحة عن الدين الإسلامي الحنيف . أعود للقول : إذا كان صاحب المبدأ يسعى للحوار فالمشكلة إذاً وهمية من حيث الإرادة والتبني ، وقد تغدو حقيقية، يوم تتعلق بالصيغة والأسلوب بعد الوجود أو الإيجاد . وهنا يكمن البحث ويجدر التأمل ، وعلى من بيدهم زمام الأمر أن يراعوا ذلك ، في جو حر وبقدر متكافئ لكلا الطرفين أو الأطراف ، حين يتعدد المتحاورون، أو على الأقل أن لا يوقفوا المبادرة ، أو يمنعوها ، حين تنبعث صادقة من أولئك وهؤلاء . فاستقبال النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عديَّ بن حاتم ، وحواره معه، وتهيئة السبل الملائمة ؛ من تكريم صادق ، وبشاشة واضحة، صورةٌ لا تغيب عن بال المسلم في كل وقت وزمان.
ورعاية المأمون، الخليفة العباسي، لحوارات كثيرة بين عقائد مختلفة " إيديولوجيات " وإتاحة الفرصة الوافية للجميع، للتعبير عما في مكنوناتهم، واقعة أكيدة في كتب التاريخ وسجلات الشخصيات المسلمة، وسوى ذلك من المتماثلات مبثوث وافر في المصادر والموسوعات . والذي نريده ونحن نذكر هذا ألا تصدر الأحكام دون حوار واضح بيّن الموضوع والاتجاه والمصطلح والنتيجة، ولا حاجة بنا إلى موقف تنفيذي مباشر، تُختصر فيه الشروط المخفِّفة، والظروف القاهرة، تلك التي تؤخذ بالحسبان، حين يكون المنفِّذ على أرض مطمئنة، وفي وضع آمن . ونلفت النظر أيضاً إلى ضرورة استمرار البحث عن صيغ الحوار وضرورته، كيفما اتفق لأحد الأطراف أن يكون، إن في حال الضعف، أوفي حال القوة، وسواء أكان من أصحاب السيادة والسلطان، أم من أهل التبعية والإذعان . فمسألة الحوار مسألة إنسانية معرفية " أنتربولوجية " بحتة، وعلامة على مدى تقدم الإنسان في سلم المصدر الصناعي المشتق منه، وإذا ما غاب الحوار عن أرض، حلّ بها الدمار، وما الأمثلة في بلادنا العربية بقليلة، فحلبة " لبنان " شاهد القرن العشرين .
الحرية : يواجهنا الخطاب الأصولي السائد بنظريته عن " الحاكمية " في الإسلام، والتي تشكل الأساس النظري لمفهوم " الدولة الإسلامية " في هذا الخطاب . وبغية الاتفاق على دلالة المصطلحات، فإننا نعني بـ " الحاكمية " ما يدل عليه مصطلح : L,autorité، و بـ " السلطة " ما يدل عليه مصطلح: Le,pouvoir . ولعله من المفيد الإشارة إلى أن " أبو الأعلى المودودي "، أمير الجماعة الإسلامية في الهند، هو أول من صاغ هذه النظرية على نحو منظومي، كنظرية للإسلام في الحكم، ويمكن التأكيد أن مفهوم " الدولة الإسلامية " في الخطاب الأصولي السائد، بشقيه السني والشيعي، هو تنويع على نظرية المودودي، فإلى أي حد تمتلك فيه هذه النظرية نصاباً يسندها في تاريخ الفكر العربي الإسلامي نفسه ؟ وبمعنى آخر : يبدو أن المودودي في مفهومه " للحاكمية " وكأنه يستعيد، على نحو دقيق، نظرية " الحق الإلهي " الأوربية، فيواجهها بنيوياً بما يصفه بـ : " النظرية الديمقراطية "، هل نظرية الإسلام في الحكم متطابقة حقاً مع النظرية " الثيوقراطية " التي يراها المودودي أقرب إلى الإسلام .
د. عكام : كان يمكن للسؤال أن يكون على الشكل التالي : كيف يرى المسلم " الحكم "؟ وماذا يعني حين يردد " الحاكمية لله" و" السلطة" ؟ وأين يكمن تصوره حين تصنَّف الأوضاع السائدة إلى " ثيوقراطية " و" ديمقراطية " ؟
عندها نُجيب : إن المسلم يعلن ولاءه المطلق لخالقه، وانقياده له، ومتى ما ثبت له بالنقل القائم على العقل، وبالعقل المعتمد على النقل؛ أمرٌ وارد عن ربه، التزمَ مضمونَه وترجم مكنونه، وهذا ما نقصده بالحاكمية بشكل موسع، ومنها ينبثق معنى " الحاكمية " الخاص، وحين تمارَس السلطة فلا بدّ من انسجامها مع هذا المفهوم للحاكمية ، وعلى الإنسان أن يبحث بعقله، وبما أوتي من قوى فكرية، لتحقيق التناغم " الهارموني " بين ولائه المطلق لله عز وجل القابع في داخله، وبين بقية تصرفاته الصادرة عنه، ليتَّحدَ توجهاً وهدفاً وسلوكاً . وفي رأيي : أن " الثيوقراطية " و "الديمقراطية " عمليتان تقومان على مصادرة التفكير إلى حد ما، فواحدة تأخذ بالأبصار إلى " فوق "، لتشغل الناس عن فعلها " تحت "، وأخرى تدير الأبصار إلى " تحت "، لتفعل فعلها " فوق "، ولا علاقة للإسلام بهما، لأنهما نظريتان متقابلتان خاضعتان لظرف وشرط وزمن خاص جداً، وفي الإسلام حسناتهما معاً . ومجمل ما يمكن قوله في هذا المجال، بالنسبة إلى الإسلام سنيِّه وشيعيِّه : إن الطريقة إلى الحكم والاستمرار فيه، وإن اختلفت الصيغ والأشكال، منوطتان بمدى مراعاة شرع الله عز وجل من قرآن وسنة شريفة، على عموم كبير بالثانية، ليدخل الفرقاء جميعهم، لاسيما أن الثقة بهما معاً " القرآن والسنة " أمرٌ كرسته عقولٌ ناضجة موثوقة، في نظر عامة المسلمين، وتجربةٌ ناجحة استمرت زمناً ليس بالقصير، حين تقاس أعمار الأمم . وليس بالضروري بناءً على ذلك تصنيف الوضع الإسلامي تحت إحدى العبائر أو المصطلحات التي لفظها مجتمع آخر، ما دامت هذه الأخيرة ولدت خاصة، ولم تكن قواعد عامة، رصدها المفكرون والفلاسفة عن سلوك إنساني بحت " انتربولوجي " . وما يؤكد كلامنا هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه : " يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكنْ من رضي وتابـع . قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة " أخرجه مسلم . وانظر باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي . وكما ورد في حديث آخر في المرجع ذاته : إن الصحابة بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على : " ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " أخرجه الشيخان . فالشعب رقيب في التطبيق، بعدما بذل جهده في التسليم والتنصيب، في أن يكوِّن تطبيقاً محتملاً لنص شرعي صحيح ثابت . فأين إذاً المقارنة بينه وبين " ثيوقراطية " لا تخضع لتفسيرات عقلية، أو بين " إيل ميلكو " التي لا تعرف الاستقلالية بنصوصها؛ بل تبقى سراً غامضاً يفسره الكهنة بالشكل الذي يرغبون، دون إراءة العلاقة بين التفسير والمفسَّر، والمفهوم والنص.
الحرية : إن " الحاكمية " أي الـ L,autorité في الخطاب الأصولي هي لله، في حين أن " السلطة " أي الـ Le,pouvoir هي عملياً لـ " الفقيه "، ويستمد " الفقهاء " سلطتهم من حق فوضهم به الله، ويتحول فيه الحاكم الإسلامي مباشرة إلى نوع من " نائب الحاكم الأعلى " . من السهل هنا استقصاء الطابع الشرقي لهذه النظرية، فالسلطة في الدولة الشرقية الاستبدادية تحكم دوماً بواسطة تفويض من "حاكمية إلهية " هي " إيل ميلكو " أو " الله الملك " أو " إيل " أو " الله " في حين يتولى " الكهنة " تطبيق هذه الحاكمية . ألا تجدون معي في أن العلاقة ما بين الحاكمية والسلطة في الخطاب الإسلامي هي استعادة على نحو ما لهذه العلاقة، وبالتالي فإنّ بنية المجتمع الشرقي الاستبدادي هي التي تفسرها ؟ هذا أولاً ، وثانياً : من الصعب على المرء أن يوافق على أنّ نظرية " الحاكمية " في الخطاب الأصولي السائد، هي نتاج نوعي لفهم الإسلام وتجاربه في الحكم، فالقطيعة ما بين هذه النظرية وما بين الخطاب الإسلامي التنويري عبده، الأفغاني، الكواكبي، سيد أحمد خان ...الخ تكاد تكون بنيوية . وبمعنى آخر، لا يشكل الخطاب الأصولي السائد وريثاً للخطاب الإسلامي، بقدر ما يشكل انقطاعاً ضدياً عنه، كيف تنظرون إلى ذلك ؟ ثم اسمحوا لي بالقول : إن الإسلام لا يمتلك نظرية في الدولة، بل تجربة في الدولة، يمكن مؤقتاً قبول امتلاك هذه النظرية بوصفها تعميماً للتجربة واستقصاء لأنظمتها، إلا أن هذه النظرية تغدو في هذه الحالة نظرية اجتماعية خاضعة للتغيير ومعاودة النظر، ومحددة تاريخياً، وليس كنظرية معطاة إلهياً .
د. عكام : على ضوء ما أسلفنا، لا أعتقد أن هناك قطيعة بنيوية بين الأشكال القديمة وشكل " عبده، الأفغاني، وسيد أحمد خان "، إلا إذا كنت يا سائلي تفترض الشكل السابق شكلاً وحيداً أفرزه النص الأصلي، ولم يعد قادراً على تقديم غيره، وهذا ما لا نعتقده نحن بدورنا . وأين الخلاف البنيوي بين كل الأشكال المسلمة ماضياً وحاضراً، إذا كان الجميع يسعون لتفسير نصوص تتعلق بالحكم والحاكمية والسلطة ؟ هذا إذا استثنينا قديماً ابن كيسان، كما نقل عنه الغزالي، وعلي عبد الرازق حديثاً، اللذين رفضا علاقة قائمة بين النصوص الأصلية الإسلامية وبين السياسة من سلطة وحاكمية، وعلى كلٍّ، فقد سمعا، كلٌ في ظرفه ووقته رداً قاسياً، واعتُبرا في أحسن أحوالهما مجتهدَين مخطئين، ولم يختلف في هذا الحكم عليهما، حتى الأفغاني وعبده وسائر رواد مدرستهما . وعلى هذا، هل يمكن أن يكون ما طرحه السائل في السؤال الرابع مقبولاً حين قال : " إن الإسلام لا يمتلك نظرية في الدولة، وإنما يمتلك تجربة " ؟ وأنا أقول : إنه يملكهما معاً، يملك النظرية بأُطرها العامة، ويسمح للعقول، بل يدعوها لممارسة دورها في الترجمة والتطبيق والتنفيذ بصيغ متعددة، تتفق في الأهداف والجذور، وتتحد في التصورات والمنطلقات، ويكفي لتحقيق ذلك، أن يكون القرآن والسنة أساساً استنادياً في إقامة الدولة واستمرارها، ومنطلقاً في استنباط النصوص الدستورية والإدارية، وهذا ما وحّد الدول المسلمة المتتالية،وجعلها تحمل، رغم كل الاختلافات الشكلية، اسم الإسلام عنواناً مشتركاً بينها، والحمد لله على سعة الإسلام العظيمة .
الحرية : إن نظرية " الحاكمية " بالمعنى الذي يستعيدها فيه الخطاب الأصولي السائد تقترح شكل " دولة إسلامية " تخطاه العصر وتجاوزه تماماً، وقد أثبتت التجربة أن " الدولة الدينية " هي أكثر الدول انتهاكاً لمبادئ الدين السامية والأخلاقية، في حين أن الدين أكثر احتراماً وهيبة في الدول العلمانية . ويخطئ الخطاب الأصولي كثيراً عندما يربط حتماً ما بين " العلمانية " والعداء للدين، فليس " العلماني " بالضرورة لاديني ، بل إن العلمانية في أساس منطقها تكفل لجميع العقائد، بما فيها العقائد الدينية، حريتها الكاملة ومزاولة مبادئها . ألا يمكن في هذه الظروف الدعوة إلى تكوين مسلمين علمانيين، لا ترتبط موافقتهم العلمانية بالإلحاد مثلاً ؟ وبمعنى آخر، أليس ممكناً للمسلم أن يزاول عقيدته الدينية في دولة تقوم على فصل الدين عن الدولة ؟ تصور واقع وضعية الإسلام في انكلترا مثلاً ووضعيته في السعودية، إن الإسلام أكثر حرية في باريس أو لندن منه في جدة ؟ والصحافة الإسلامية تصدر حرة تماماً في لندن أو باريس، في حين أنها خاضعة لـ " رقيب " في الدول الإسلامية . أريد أن أقول : إن حرية الإسلام تكمن هنا في علمانية تصون هذه الحرية قانوناً وعملاً .
د.عكام : لم يتخطَّ عصرنا يا سائلي الدولة الإسلامية، وما أظنك بمعزل عما حدث في دولة كبيرة تسمى " إيران "، فهي صيغة من الصياغات الإسلامية، أساسها الإسلام، ودستورها مستمد منه، وأحيلك عليه لتقرأه . بل لم يتخطَّ زمنياً حتى " الدولة الدينية " بالمعنى العام، والأمثلة كثيرة في مصنَّـف الأمم المتحدة، ولا أعرف حتى الآن سر الجهل هذا أو التجاهل ! ومن ناحية أخرى، أراك ترى الدين منتَهكاً، حسب تعبيرك، في الدولة الدينية، وما يهمني منها الإسلامية، أشد منه في الدولة العلمانية، فهلا أتيت بأمثلة على هذا الانتهاك ؟ وأما احترام الدولة العلمانية للأديان، فلا يغرنّك منه صور باهتة ودعاية ساذجة، وهل يحترم الأديانَ يا سائلي من أباح اللواطة مذهباً، والجنس الإباحي مبدأ، والدعاية الملوثة وسيلة لديمقراطية مزيفة ؟! بل ما بالك به يمنع الأذان للصلاة، ويسمح بالروك، سل عن ذلك إدارة المساجد في باريس ولندن وقد أُعجبتَ بهما. وأخيراً، كيف تريد للمسلم أن يتخلى عن جزء أساس من دينه وشريعته، وهو ينأى عن السعي لقيام دولة إسلامية؛ ليسعى بالمقابل إلى إقامة دولة " باريسية " أو " لندنية "، ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) البقرة/61 ؟!
الحرية : ما هو شكل السلطة أي الـ Le,pouvoir الذي يحقق للإسلام المعاصر حريته ؟ هل هو شكل " الدولة الدينية " التي يشيدها "الفقهاء "، أم شكل الدولة العلمانية التي يتساوى فيها الجميع، وتزاول فيها العقائد حرياتها، في الآن الذي تسمح فيه بحرية الاصطراع الديمقراطي ما بين العقائد ؟ وبمعنى آخر، إن الماركسيين والقوميين والعلمانيين والديمقراطيين والليبراليين والمتنورين يشكلون جماعات بشرية واسعة في البلدان الإسلامية، وهؤلاء هم أكثر ضمانة لحرية المسلمين في مزاولة عقيدتهم من ضمانة الدولة الدينية لهم بمزاولة آرائهم، وبالتالي فإن المخرَج العلماني الديمقراطي هو مخرج ينسجم مع مصلحة الجميع، وإلا فإن مجازر التسلط، وهدر الدماء هي البديل .

د.عكام : حين نذكر الإسلام نذكره مستوعِباً، وليس العكس، فهو الإطار الجامع لشتات الآخرين، وهكذا نريده ، وضمن حدوده العامة، أو ما يعبر عنه فقهاؤنا بالنظام العام، تُزَاوَل الحريات والمبادئ والديانات فـ ( لاإكراه في الدِّين ) البقرة/256 آية في القرآن تُطبَّق أول ما تطبق عندما يحكم الإسلام ، ( وقولوا للناس حسناً ) البقرة/83 آية أخرى تستوعب بحروفها وكلماتها الجميع ، وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " الناس من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى " أمر لا يغيب عن بال القائمين على تسيير الدفة في الدولة المسلمة .
أليست أمريكا دولة علمانية في رأيك ؟ إذاً فأخبرني عن حياة الزنوج فيها ؟
أوَ ليست إنكلترا دولة متقدمة في مضمار العلمانية على حد زعمك ؟ وأنت الذي تستشهد بلندن كثيراً، إذاً أخبرني عن دعمها الكبير لـ آيات شيطانية ، متجاوزة بذلك شعور آلاف من المسلمين هناك . وفي المقابل نجد القرآن الكريم يقول لأتباعه ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) الأنعام/108 ،فمَن الشامل ومن المشمول ؟ أخيراً دعني أنصحك ببيت شعري يقول قائله :
إنّ الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب
إنّ الإسلام شكل فريد في دولته وسياسته واقتصاده، وهكذا أراه، ولولا ذلك لما كنتُ مسلماً . لن أقول عنه " دولة دينية "، فأنا أخاف من بقايا صور مرعبة للمصطلح ورّثتها دولة حملة الصليب زوراً، ودخلت أراضٍ ليست بأراضيها عدواناً، أو دولة أعدَّت محاكم كبيرة فتّشت من خلالها عن كل إنسان يحمل بين جنبيه ضميراً حراً فأبادته .
أما الإسلام في قول خلف بن المثنى عن شموله وديمقراطيته : شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة وهم : 1 - الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب النحو، وهو " سني " ، 2 - والحميَري الشاعر، وهو " شيعي " ، 3 - وصالح بن عبد القدوس، وهو " زنديق ثَنَوي " ، 4 - وسفيان بن مجاشع، وهو " خارجي صُفَّري " ، 5 - وبشار بن برد، وهو " شعوبي خليع ماجن " ، 6 - وحماد عجرد، وهو " زنديق شعوبي"، 7 - وابن رأس جالوت، وهو " يهودي"، 8 - وابن نظير المتكلم، وهو " نصراني "، 9 - وعمر ابن المؤيد، وهو " مجوسي " ، 10 - وابن سنان الحرَّاني، وهو " صابئي " ، وكلهم في رعاية إسلامية إنسانية، فهل عرفتَ لذلك شبيهاً ؟ وهل أنت باقٍ على قناعتك يا سائلي بأن العلمانية شكلٌ يستوعب الجميع، أم عدلت ؟ على كلٍّ هذا شأنك، فلا تؤاخذني، فقد أردتُ الملاطفة . وأختم الجواب بقول غوستاف لوبون : " إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم " . وللاستزادة والاطلاع، انظر كتاب ( من روائع حضارتنا ) للدكتور العلامة المرحوم مصطفى السباعي .
الحرية : ليس " الإسلام " مجرد " قرآن وسنة " وحسب، بل أساس تراث حضاري أسهمت في تكوينه ثقافات وحضارات شعوب متعددة، أنتج استيعاب " الإسلام " لها في فترة تاريخية ما شيئاً نسميه الحضارة العربية الإسلامية . إن انتماء سلامة موسى، أو مكرم عبيد، للإسلام بهذا المعنى، ليس بأقل من انتماء المودودي نفسه له . أريد أن أقول أيضاً : إن الإسلام بالنسبة لنا نحن العلمانيين، سواء كنا ماركسيين، أم قوميين، أم ليبراليين، أم ديمقراطيين، هو تراث حضاري ننتمي له، وتناسجَ في وعينا على نحو ما، فلماذا يصر الخطاب الأصولي على تقديم الإسلام في صياغات فئوية محددة، تدَّعي أنها تمثل الإسلام الصحيح، ولا تعتبر نفسها مجرد صياغة من الصياغات الإسلامية ؟ وبمعنى آخر: إن الحقيقة الإسلامية واسعة، وقد اتسعت في الماضي لكي تشمل " شبلي شميِّل " و " فرح أنطون " و " قسطنطين زريق " و" مكرم عبيد " و " سلامة موسى " و " فارس الخوري " المسيحيين، بصفتها وعاءً حضارياً، فما الذي يتناقض مع مبادئ الإسلام في إطار هذه الحقيقة الواسعة ؟
د.عكام : يحرص علماء المنطق على تعريف الأشياء بحدود تضمن دخول مفردات النوع الواحد تحتها، وتُخرج ما يغايرها في ماهياتها منها . والسائل الكريم يحاول استخدام أجناس بعيدة لا يحتملها الحد، وهذا،كما يقول المناطقة، مَعيب عند أهل النظر . ليس الإسلام قرآناً وسنة فقط، هذا صحيح يا هذا، وفي الوقت نفسه ليس بتراث حضاري ساهمت في تكوُّنه ثقافات وحضارات وشعوب متعددة فقط أيضاً، وإنما هو هما معاً، وانتماء المودودي ثابت لهما، وانتماء غيره ممن ذكرت غير ثابت، فلماذا القصر على بعض المعاني في ناحية، ورفض القصر في ناحية أخرى ؟ وأي جمع هذا الذي تقوله حين تقبل رفد كلمة " ماركسي " بـ " مسلم " أو "مسلم بماركسي " ؟ والماركسي يرفض حد المسلم، فكيف نحمّله إياه ؟ وكذلك المسلم يرفض حد الماركسي، فكيف نجمعه به تحت قنطرته ؟
لقد ذكر علماء المنطق أيضاً؛ أن حدّي القضية ينبغي ألا يكونا متناقضين، وإلا فالقضية باطلة تصوراً وواقعاً، وإن كان الإنسان قادراً على لفظها، فأنا أستطيع أن ألفظ عبارة " رجل مسلم مسيحي "، ولكنني لا أستطيع تخيله أو تصوره، إذ مجرد الدخول تحت حدّ أحد المفهومين، يُخرج الرجل من حد المفهوم الآخر تلقائياً . نحن نرفض التفرد إذا كان قائماً على التفريق التعسفي، فلا نرضى أن تدعي فئة ما احتكار الإسلام لها، وتسحبه من غيرها؛ إذا كانت الفئة الثانية تمتلك الانتماء الكامل الواسع بخطوطه العريضة وأطره العامة، فهي تؤمن بـ الله رباً، وبمحمد نبياً رسولاً، وبالقرآن كتاباً من عند الله، وبالإسلام ديناً شاملاً حياتياً رسالياً، وإن اختلفت الاجتهادات في مظانها بينهما، وأدّت إلى ما أدت إليه .
لقد فهمتُ من كلامك أن الماركسية في دنيا العرب صياغة من الصياغات الإسلامية ! فهل المسلمون في الاتحاد السوفيتي صياغة من الصياغات الاشتراكية الشيوعية ؟!
الحرية : طرح " محمد عبده " منهجاً جديداً لفهم الإسلام، وهو في أقل حال مسلم لا يشك أحد بصحة إسلامه، ويقوم هذا المنهج على إتاحة الحرية الكاملة للمسلم العادي جداً أن يفهم القرآن، و يفتي لنفسه بمجرّد امتلاكه لقواعد الحد الأدنى في القراءة والفهم . ألا يمكن اعتبار منهج " محمد عبده " خياراً لتحرير الوعي الإسلامي من فتوى " الفقهاء "،وإتاحة الفرصة لهم لكي ينتجوا الفتاوى التي تنسجم مع حياتهم ؟
د.عكام : ما ذكرته عن " محمد عبده " لا يختلف فيه اثنان من علماء المسلمين، فالقرآن لدى جميعهم خطاب الله للعقل في كل العصور والأزمان، وليس لعقل في زمن محصور، وعلى العقل أن يتعامل مباشرة مع هذا الخطاب، وله أن ينتج ما شاء من الفهوم الموصولة بألفاظه وصلاً لغوياً ودلالياً صحيحاً، وما فَهْمٌ بأولى من فهم في الاعتبار، إذا استوفى شرائط الاستنباط، فالظنيات لا تتعاير على بعضها، هكذا يقول علماء المنطق . وفي الوقت نفسه، من الذي يمنع الاستعانة بما سبق من تفسير وتوضيح لهذا الكتاب المقدس الكريم ؟ بل من الذي لا يوجب الاستهداء بمبيِّن صادق ذكي العقل وَحيٍ من الله الحق ؟ من الذي يحجر على أصحاب العقول تفكيرهم إذا اتخذوا القرآن الكريم نبعاً ثراً يرتشفون منه، ومصدراً فيّاضاً يردونه ؟
الحرية : أعتقد أن لا مستقبل للإسلاميين خارج اندماجهم في الحركة الديمقراطية العامة، التي تتيح الحرية والمساواة أمام العقائد برمتها، وتصونها قولاً وفعلاً، فـ " الديمقراطية " اليوم هل تتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " ؟ لقد تطورت " الدنيا " على نحو هائل، وفرضت حقائق نهائية، ليس أولها تساوي الذكر مع الأنثى في الشهادة والميراث مثلاً، والمساواة المدنية الكاملة. لقد حدد الإسلام حقائق في ضوء تطور مجتمعه، وانسجمت هذه الحقائق مع هذا التطور على نحو ما، إلا أن هذه الحقائق الجديدة النهائية تبدو في عالمنا كحقائق اجتماعية بحتة، وبذلك هل يمكن للإسلام كدين حيوي واكبَ عصره، ويرى نفسه مواتياً لجميع العصور " لكل زمان ومكان " ، أن يتخطى الحقائق الجديدة النهائية لعالمنا المعاصر، ويبقى ديناً صالحاً لكل زمان ومكان . إن عقلية " الدين " وعقلية "الكومبيوتر " متناقضتان بنيوياً، ألا يمكن ترك عقلية " الدين " تحكم العلاقة بـ " الآخرة " فقط حسب تعبير الكواكبي، وترك عقلية "الكومبيوتر " تحكم الدنيا ؟
د.عكام : القطعي والظني في الإسلام كفيلان بتحقيق التغطية الشاملة لكل المستجدات، وسعة دلالة ألفاظ النص قادرة على استيعاب كل شيء، والتاريخ بحوادثه شاهد على ذلك . وما يجب فعله حاضراً؛ من بحث وتمحيص واستنباط واجتهاد من قبل علماء المسلمين المتخصصين، سيكون مدعاة للاطمئنان . قال مرة أحدهم، وهو نقيب محاماة في مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في باريس /1951/ : " أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي، وعدم صلوحه أساساً تشريعياً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها، مما يثبت خلاف ذلك تماماً، ببراهين النصوص والمبادئ " . انظر المدخل الفقهي الجزء الأول المقدمة للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا . وأنا أقول اليوم قوله، وأردد حديثه : لا أعرف كيف أوفق بين ما ينسبه دعاة العلمانية للإسلام من قصور، وبين واقع الإسلام، وحقيقته التشريعية والأخلاقية، وهل يعرف هؤلاء أن مصادر الإسلام الأصلية والتبعية " القرآن، السنة، القياس، الاستحسان، العرف، المصلحة المرسلة " كفيلة بالإحاطة بكل جديد؛ توصيفاً وتأطيراً وربطاً بالعقيدة والأصول الإسلامية ؟ وإذا كان السائل يحرص على التصنيف والتفريق بين عقلية " الدين " وعقلية " الكومبيوتر "، فإننا لا نحرص على هذا، لأننا نملك تصوراً آخر يقدر في ترجمته العملية على الجمع بينهما، فـ " الدين " موضوع، و" الكومبيوتر " طريقة، ولا تعارض بينهما، إلا أن يريد السائل إخضاعنا لآلة العصر وربطنا بها على أننا من أجزائها، وإذلالنا لتحكماتها، وإبعادنا عن ساحة الريادة في الكون إلى قعر الخضوع له؛ عندها ستدق الساعة الخامسة والعشرون، ويومها يحدق الخطر، ويضيع في الإنسان جوهره، لقد علّم الإسلام أتباعه قولة رائعة رائدة، في ميدان التوازن بين المادة والروح، والدنيا والآخرة، وأمرهم أن يُسمعوها آذان الباترين من كلا الصنفين ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار ) البقرة/201 .
الحرية : ألا ترون أن " تسييس الإسلام " هو أمر مفهوم اجتماعياً، بمعنى أن الاجتماعي هو الذي يفسر الديني، وليس الديني هو الذي يفسر الاجتماعي، غير أن تحقيق المؤمنين لحريتهم لا يتم عبر " تسييس " الدين، والذي يضطهد حرية غير المؤمنين؛ بل عبر خيار ديمقراطي يحققون فيه حريتهم، ويكونون فيه سادة أنفسهم . إن أي ديمقراطي، أو ماركسي، أو ليبرالي، أو قومي صادق، ونحن نعلم أن هناك مسلمين غير صادقين أيضاً لا يصح القياس عليهم، لا يمكن أن يعتبر أي انتهاك لحرية المؤمن إلا كانتهاك مباشر لحريته . الموقف الديمقراطي يفترض الدفاع عن الحرية الكاملة للمسلم في مزاولة عقيدته، مع أنه قد يكون غير مستند للإيمان بالضرورة، فهل في ذلك عداء للإسلام ؟
د.عكام : لعل جواب هذا السؤال غدا مفهوماً من أثناء الأجوبة السابقة، فإن كان التأكيد نافعاً قلت : على الإنسان أن يتعامل مع المفاهيم والأشياء تعاملاً واقعياً، غير جاهل طبيعتها أو متجاهلها، فإذا كان الإسلام بطبيعته ونصوصه ومبادئه سياسياً مسيِّساً ومسيَّساً، فكيف يجوز لنا رفع خاصة أساسية فيه ؟!
الحرية : العنف ليس الإسلام، ولا أية عقيدة أو إيديولوجية هم الذين يولّدون العنف، ولكن الشروط الاجتماعية هي التي تولد العنف، إن كل عالم " الردَّة " في إنكلترا لا يولد عنفاً من المسلمين فيها ضد مظاهره، حسناً إنها " دار كفر " تستوجب " الجهاد " بمعناه العنفي المباشر، ولكن مسلمي إنكلترا لا يفعلون ذلك . إن أنظمة ديمقراطية تكفل حرية المؤمنين في مزاولة عقائدهم، بمن فيهم مؤمني الديانات غير الإسلامية، على قاعدة " المساواة الدينية " وليس " الذمة " هي التي تكفل الخلاص من العنف، وأن يكون الإسلام إيديولوجية " عنف " في مجتمعاته نفسها، أليس أمراً يعود إلى خلطه بالدولة ؟ إن مستقبل إسلام بلا عنف هو إسلام بلا سياسة، ويصح ذلك أيضاً على المسيحية واليهودية، فاليهودية نفسها لا مستقبل داخل اندماجها بالصهيونية مثلاً سوى العنف . أليست العلمنة الكاملة والدمقرطة الشاملة هي الخلاص للجميع والتحقيق الأكمل لحريتهم ؟
د.عكام : ليس العنف وليد الإسلام السياسي، أو الإسلام الشامل، ولكنه وليد إفراط أو تفريط، في فهمه وتفهيمه، وليد ادَّعاء فئة منه، أنها هو دون غيرها، بالرغم من وجود صفاته، وشرائطه العامة لدى غيرها، ومن ثم تعاملِها وسلِوكها على هذا الأساس القاصر . ووليد رفعه دونما دليل ، وإخراجه حين قبوله عن ساحاته، واحتقار فهوم أتباعه، من خلال قصر عبائره ونصوصه على بعض ما تدل عليه، ومحاولة منع المسلمين من فهمه على اتساعه وشموله . وهل يبقى الإسلام كما هو إذا انحسر على حد زعمك عن مجالات الحياة أو بعضها، ورضي بالتبعية لشرق سلك الطريق الأعنف في وصوله، أو لغرب لا يأبه بإبادة الكثيرين، إذا وقفوا عقبة كأداء في تحقيق أطماعه ومآربه ؟ هل " الدمقرطة " أن يتخلى الإسلام عن كليته لأبعاض تريد أن تكون كلاً ؟ وقد ألمحنا سابقاً أنَّ الإسلام عندما يحكم يحقق " الديمقراطية " أكثر من العلمانية عندما تستولي، فلماذا ندعو الأخيرة إلى السياسة، ونعيب على الإسلام تدخله فيها وهو أبوها ووليُّ أمرها ؟ لقد قاتل أجدادنا المستعمر ببسالة نادرة، يريدون إخراجه من سورية الغالية، وكانوا في عينه ونظره عنيفين، وإن كانوا في قناعته غير ذلك، بالرغم من أنه يزعم إرادة الخير لهم، والعمار لبلادهم، وإقامة شعائر دينهم أحياناً . فهل كان قتالهم له، وجهادهم عنفاً مقبولاً أو مرفوضاً ؟ لا سيما وأنَّ أكثرَهم كان الإسلامُ دافعَه، والدينُ محركَه، والعقيدةُ حافزَه ؟ هل تريد للمسلمين، يا سائلي، أن يسكتوا عن جزءٍ من دينهم لضمان جزء آخر ؟ أم تريدهم ساكتين عن حقوقهم في فرنسا، وقد تجاوز عددهم العُشر تقريباً ؟ أم أنك تسمح للأفغانيين أن يقاتلوا ويعارضوا، ولكن شريطة أن لا يكون ذلك باسم الإسلام، وإلا فهم عنيفون ؟! سامحك الله، لقد نجَّمتَ فقلت : إن مستقبل إسلام بلا عنف، هو إسلام بلا سياسة، وأنا أتوقع، ويكاد يكون تيقناً، أن مستقبل دنياً بلا عنف وإرهاب، مستقبل إسلام شامل عام كامل، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وعقدياً . وإذا كنت تقرر " العلمنة " طريقاً للخلاص، فما لي سوى المقابلة الحوارية طريقاً لأقول : إن الإسلام بتعاون العقلاء على فهمه، والمنفذين على تطبيقه، والأخلاقيين على تبنيه، هو طريق خلاص الإنسان ونجاته من شرٍ قد اقترب . وليعلم الناس أن الحوار إذا دخل من الباب هرب العنف من الشباك، فهل يهيئ أرباب الأمور لحوار مفتوح حقيقي ؟ وهل يتابع طلاب الحوار طلبهم له، وحرصهم عليه، أينما كانوا وحيثما حلّوا، إنْ في القبو أو على السطح ؟ هذا ما نأمله، وإنّا لحوار يرتّب آثاراً، وينتج تغييراً على الصعد المختلفة لتواقون .
الحرية : ليست " العلمنة " في محتواها مجرد فصل قانوني للدولة عن الدين، وهو الأمر الذي تقره شكلاً الكثير من الحكومات، ولكنها منظومة فكرية ثقافية اجتماعية تنقل المجتمع من مرحلة علاقات ما قبل المدينة الأمة، إلى مرحلة العلاقات " الأموية " نسبة إلى أمة، فلا تتوفر الأمة في علاقات طائفية، مذهبية، عشائرية، عائلية ... الخ . فما موقع الإسلام في إطار هذه النظرة للمحتوى الفعلي للعلمانية ؟
د.عكام : إذا كانت " العلمنة " في تعريفك " التطلُّعي " أي هكذا تأمل أن تكون، والأمل حلو وجميل، منظومة فكرية ثقافية اجتماعية تنقل المجتمع من مرحلة علاقات ما قبل المدينة، إلى مرحلة علاقات الأمة، فإني أحب أن أضع في المقابل تعريفاً حقيقياً للإسلام، الذي يزيد المنظومة المذكورة بُعداً عقدياً أيضاً وبعداً تاريخياً، وقد نقل فعلاً المجتمع من علاقة العشيرة والعائلة، إلى علاقة الأمة المكتملة بخصائصها ومقوماتها، من عقيدة، وسلوك، ومنهل تاريخي واحد، ولغة مشتركة تعبّر عن فكر مشترك . وانظر تأكيداً لهذا ما ورد في القرآن الكريم من آيات فيها لفظ أو مصطلح " الأمة " وما أكثرها ! وعلى سبيل المثال، ما قاله الله تعالى : ( إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) الأنبياء/92 . وانظر أيضاً دستوراً وضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب هجرته مباشرة إلى المدينة المنورة، ووصوله إليها، وأورد فيه لفظ الأمة، ودعا إلى إقامة العلائق على هذا الأساس، فكان سابقاً بذلك إلى ما ترومه وتريده، أيها السائل الكريم .
أخيراً : شكراً لكم محاورين، وآمل المتابعة، وإني على رجاء من العليِّ القدير ، أن يوفق الجميع للوصول إلى جادة الحق والسلام، وأن يهيأنا لمرضاته، وخدمة شريعته، والذود دون عنف عن بلادنا وأمتنا . وإلى لقاءات في حوارات قادمة، بعون الله .

التعليقات

شاركنا بتعليق